خلافا للخطاب الذي يصر عليه الرئيس بوش وعدد من كبار المسؤولين العسكريين بأن الأمور تسير على ما يرام في العراق، فإن الحقائق على أرض الواقع لا تشير إلى ذلك نهائيا، وعلى النقيض من إصرار البيت الأبيض والبنتاغون فإن الصحف الأميركية الرئيسة بدأت تطرح علامات استفهام كبيرة حول حقيقة الصورة الواقعية، في ظل التقارير المتعددة التي تظهر عدم استعداد القوات العراقية المدربة للقيام بمهمتها من ناحية، وازدياد حدة النزعة الإثنية والطائفية، وعمليات الاغتيال المتبادل في الآونة الأخيرة من ناحية أخرى.
ويبدو من المحادثات الأخيرة بين الرئيس الأميركي بوش ورئيس الوزراء العراقي إبراهيم الجعفري حجم التراجع في الدعاية السياسية الأميركية حول العراق، إذ انتقل الحديث من تحقيق انتصارات كبيرة والقضاء على العمليات المسلحة، إلى الحديث عن رفض تحديد جدول زمني للانسحاب، الأمر الذي يوضح حجم الضغوطات التي باتت تمارس على الإدارة الأميركية في الداخل، وتكشف عن التحول الحاد في المزاج الشعبي الأميركي، وداخل كل من الحزب الجمهوري والديمقراطي، في الوقت الذي يتبدى فيه "شبح فيتنام" أمام الجيش الأميركي في العراق، إذ أصبح 40% من الأميركيين يشبهون الوضع في العراق بما حصل في فيتنام.
وتشير صحيفة "بوستون غلوب" إلى أنّ العراق بعد فترة الإطاحة بصدام حسين تحول إلى ساحة لحرب العصابات الكلاسيكية، كما أن عدد الهجمات اليومية للمقاومة تضاعف خلال الأربعة أشهر الأخيرة، وأصبحت أميركا تفقد نحو ثلاثة من جنودها يوميا وفقا للدعاية الرسمية، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى في الجيش الأميركي، الأمر الذي ألقى بظلاله على الرغبة في التجنيد للخدمة في الجيش الأميركي في الآونة الأخيرة، ووجود صعوبة بالغة لدى المسؤولين الأميركان بإقناع الشباب بالانضمام إلى الجيش تحت ضغوط هاجس الذهاب إلى العراق.
المدهش أنّ التطورات الأخيرة قد توازت مع جهود أميركية حثيثة لضرب المقاومة العراقية، وتحقيق تقدم ملموس في استهداف قيادات القاعدة في العراق، إذ تمكنت القوات الأميركية من إصابة الزرقاوي ومن قتل عدد من القيادات البارزة في التنظيم أو اعتقالهم، وقامت بالعديد من الحملات العسكرية الكبيرة المكثفة التي ترافقت مع تصريحات تؤكد أنّ المقاتلين يلفظون أنفاسهم الأخيرة. لكن هذا لم ينعكس إيجابا على الوضع الأمني، بل إن تقريرا صدر مؤخرا عن المخابرات الأميركية يشير إلى أن الحركة المسلحة في العراق تفرز نوعا جديدا من "الإسلاميين المتشددين" الذين قد يسعون لزعزعة الأمن دول أخرى. ويقول التقرير: إن المقاتلين العراقيين والأجانب يكتسبون مجموعة جديدة من المهارات، بدءا من تجهيز السيارات الملغومة والاغتيالات إلى الهجمات المنسقة.
أمام هذا الواقع المتردي يبرز السؤال حول المرحلة القادمة وخطورة استمرار تدهور الأوضاع الأمنية وتداعياتها على الحالة السياسية، إذ يبدو واضحا أن النزعة الطائفية تسود بشكل كبير وتحول دون بروز كتلة عراقية كبيرة تحمل المشروع الوطني الجامع وتتجاوز اللغة الطائفية المتداولة اليوم في مختلف أنحاء العراق. إلا أنّ المشكلة لا تقع في تدهور الأوضاع الأمنية أو في إخفاق القوات الأميركية عسكريا في العراق، وإنما في الخوف بأن البديل ليس انتصار المشروع الوطني مقابل المشروع الاستعماري، بل حرب أهلية وطائفية تأكل الأخضر واليابس في حال خروج القوات الأميركية، وتجعل من العراق أرضا خصبة للفوضى والقتل والدمار الداخلي.
المحصلة التي يمكن أن نصل إليها اليوم هي التي أشار لها "روبرت فيسيك" مؤخرا بأن المعطيات الحالية تشير إلى أن الرابح الوحيد من الأوضاع الحالية في العراق هو إسرائيل التي تخلصت من خطر القوة العسكرية العراقية وأضعفت الحالة الجيوستراتيجية للجوار العربي. بينما يقف العراقيون اليوم أمام احتمالين لا ثالث لهما؛ إما الاتفاق على مشروع سياسي يشمل الجميع، وإما الدخول إلى نفق حرب أهلية وطائفية لا يعلم نهايتها إلا الله!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد