من يتم التقاطهم من أطفالنا المبدعين قبل الوأد هم استثناءات تبلغ من ندرتها أحيانا الحد الذي يكرس القاعدة التصديرية لا الذهبية ، وقد يكون الوأد بمعناه الواقعي أو الجاهلي بمعنى أدق اقل تنكيلا بالانسان من الوأد المعنوي ، وهذا ما عبر عنه ذات يوم الشاعر الفرنسي هنري ميشو عندما قال ان مقصلة فرنسا أرحم من سجون سواها من دول أوروبا ، لأنها تقطع الرأس بما فيه اللسان ، أما المقاصل الأخرى فهي تقطع اللسان فقط وتبقي على الرأس،

ان حرمان طفلة من حقها في التعلم هو وأد حديث بطبعة منقحة ، لأنه يبقيها مجرد كائن أعزل من كل شيء ، وفاقد للارادة والقدرة على تحقيق الذات ، وما قرأناه عن موزارت وشامبليون ورامبو وسائر الأطفال العباقرة يبدو أنه كان لمجرد التسلية أو استعراض القراءات على طريقة حامل الأسفار الذي لم يحملها ، لهذا اضعنا من الفتيان ما يستحق العويل وليس الندم فقط ، ولم نتنبه الى قدراتهم ونبوغهم المبكر ، وما كان ينتظرهم من مستقبل عظيم.

وتربويات الزجر وكبح الجماح بأساليب بدائية أدت الى عملية وأد جماعي راح ضحيتها ملايين الأطفال العرب ذكورا واناثا لأن هذه التربويات لا ترى في الفرد لكي يكون صالحا الا قطعة غيار صماء أو مجرد حلقة مفرغة في سلسلة من الحلقات ، ولو كان ما تعرض له أطفال مثل موزارت وتشرتشل وشامبليون قد حدث لأطفالنا لانتهى هؤلاء الى مصائر أخرى ولما عرفناهم على الاطلاق ، لأن أخطاءهم الجسيمة احيانا دلت معلميهم على طاقاتهم الفائضة وذكائهم الاستثنائي فهم بخلاف الآخرين يحاولون ، ويطرقون أبوابا كتب عليها ممنوع الدخول ويستخدمون أسماء أدرجت في خانة الممنوع من الصرف.

وما يقول علماء النفس عن الاطفال النابغين هو أنهم يتجاوزون مرحلة المحاكاة مبكرا ، وحين أجريت تجربة على طفل وقرد ، اتضح ان القرد كان أمهر في المحاكاة من الطفل البشري لبعض الوقت ، لكنه توقف بعد ذلك عن النمو العقلي فيما استمر الطفل.

ومطالبة الاطفال ومن ثم الافراد جميعا بأن يكونوا متساوين ومتشابهين في كل شيء ، هي نوع من التقريد ، واحيانا يؤدي تهرب البالغين من اسئلة الصغار بحجة كونها محرجة أو متخطية لمراحل اعمارهم يؤدي الى نتائج مضادة ، بحيث يجمع الخيال دون أية معادلات حسية وموضوعية في الواقع ، والتربية رغم استخدامها كمفردة بمناسبة وبلا مناسبة ليست كما نتوهم ، انها تقال عن اللحى مثلما تقال ايضا عن الشوارب والارانب والماشية. ومعناها السطحي الوحيد هو اتاحة فرصة النمو لكل ما هو قابل للاستطالة. وثمة من ينفقون من الوقت على تربية أموالهم وورشاتهم أضعاف ما ينفقون على تربية أنفسهم وابنائهم ، ظنا منهم ان الانسان يتكون بالمصادفة والحظ.

وما من مرة نشاهد فيها طفلا ذكيا تحققت له النجاة من الوأد حتى نشعر بعاطفة مركبة من الفرح والأسى ، الفرح بمناسبة نجاة هذا الطفل والأسى بسبب تخيلنا عن الآلاف أو الملايين الذين لم تحقق لهم النجاة ، وتم وأدهم رغم انهم احياء لكنهم يجرون أجسادهم وقبورهم معهم أينما ذهبوا،

خسائرنا من الوأد المعنوي في العالم العربي أضعاف أية خسائر أخرى ، لكنها خسائر محرومة من الحاسوب والرصد،،


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور