يقول مثل انجليزي قديم ، ان الانسان قد يخرج من القرية لكن القرية تمكث داخله حيثما ذهب ، ونحن العرب حملنا الصحراء قبل القرى في داخلنا ونحن نصعد ناطحات السحاب ، مثلما استمرت اللحظة الطللية داخلنا ايضا حتى عندما لا تكون هناك اطلال نبكي عليها.

وباختصار ، نحن الان ندفع ثمن متطلبات الاقامة في القرية مثلما ندفع ثمن الاقامة في المدينة لكننا لسنا هنا ولسنا هناك ، ولم نعد قرويين كما اننا لم نصبح مدنيين ، وصرنا كالمُنبت الذي لا قرية ابقى ولا مدينة قطع ، لهذا نحن مصابون بخلل جذري وبنوبة من العمى المؤقت ، بحيث لا ننعم بفضائل القرى ، بدءا من خبزها وخضارها وفاكهتها غير المسرطنة ، وانتهاء بالبراءة وطيب المعشر وصلة الرحم وذوي القربى ، كما اننا محرومون من فضائل المدن ، بحريتها ومكاسب الافراد فيها التي تجعل لكل واحد منهم حدودا لا تمس ، وقد يبدو ظاهر حياتنا في معظم عالمنا العربي مدنيا بامتياز شاهق ، اذا احتكمنا فقط لما هو مرئي على سطح المشهد من عمران واسواق وسيارات وزحام ، لكن ما ان نقشر الطلاء الهش حتى يظهر على الفور ما هو مخفي ، فالبدلة وربطة العنق والرطانة والسيارة لا تحول دون ظهور جبلة بن الايهم بعد دقيقة فقط من استفزازه ، والاحزاب بكل شعاراتها لا تحول دون عودة الرفاق الى ابن غزية الذي قال انه من قبيلة ان غزت تبعها وان رشدت رشد ، فلا عقل له ولا رأي لانه مجرد رقم غير فاعل ، ومجرد اسم ممنوع من الصرف،.

ولا ندري كيف تحولت حياتنا الى حفلة تنكرية مستمرة على مدار العام وليس فقط في مناسبة واحدة كليلة رأس السنة ، فنحن قرويون في الطقوس فقط ، ومدنيون بالمظاهر فقط ، واحيانا يتزاوج فينا النقيضان من كل شيء ، فتكون الحصيلة ما نرى ، وهو باختصار سيرك مجاني مفتوح طوال الوقت.

ان ما يتبادله اثنان يمتطيان سيارتين فاخرتين عند اشارة مرور ، كان يعف عنه رجلان يمتطيان بعيرين او حمارين قبل الف عام،.

ان اهم ما انجزته المدينة ليس العمران او المولات التي تحولت الى سيرك ايضا ، بل هو انتقال البشر من سياقات الى اخرى والاعتراف بقيمة الفرد وحريته واحترام خياراته ، حتى لو لم تكن متناغمة مع السائد ، كما ان انشغال الانسان في المدن المنتجة حرره من ثقافة النميمة التي تزدهر في البطالة ، فما الذي تحقق لنا كعرب من هذا التطور؟.

اننا بضربة سحرية حولنا منجزات التكنولوجيا لخدمة التخلف: فالفاكس استخدم للنميمة على نطاق واسع ، والموبايل - الذي كان الهدف من اختراعه توفير الوقت - اصبح اداة مثالية لتدمير الوقت بالثرثرة ، بحيث ينفق العرب على هذه الثرثرة سنويا ، اضعاف ما ينفقون على التعليم والصحة،.

هذا المُنبت الذي لا قرية ابقى ولا مدينة قطع ، اضاع حتى صحراءه ، فتقوق على الغراب الذي قلد الحمامة واضاع ثلاث مشيات وليس اثنتين فقط،،.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور