اعتدنا أن نسمع من بعض الأبناء عتابا قاسيا للوالدين ، لأنهما لم يوروثهم مالاً أو عقاراً ، وغالباً ما يستشهد هؤلاء ببيت شعر للمعري يقول فيه..
هذا ما جناه أبي عليّ
وما جنيتُ على أحد
لكن نادراً ما نسمع عتاباً معكوساً للآباء والأمهات من أبناء رضعوا منذ نعومة الاظفار حليب الكرامة ، وبقيت عيونهم على اتساعها في مواجهة العالم باسره.. ان بعض هؤلاء الأبناء قد يشكرون آباءهم علانية ، لكنهم يشعرون بالأسى ويعاتبوهم سراً ، لأنهم ورطوهم في عالم لا فرق فيه بين الكرامة الانسانية والشامبو أو بين الحذاء والقبعة ، وهؤلاء الآباء المتفائلون لم يخطر ببالهم أن الزمن الذي سوف يبلغ فيه أبناؤهم سن الرشد سيكون زمناً مطوباً للأنذال ، والشّطار بالمعنى العربي القديم الذي أجرى له كاتب عربي معاصر جراحة تحديثية فشمل الفهلوي والرصولي والمنافق والمصاب بالشيزوفرينيا المضاعفة..
في الماضي القريب كان لا يزال هناك شيء من الخجل الذي ميّز الانسان عن باقي الكائنات ، لكن هذا الخجل أصبح الآن من خرافات يسخر منها من صارت جلودهم أشد كثافة من جلود الفيلة وان كانوا محرومين من حنانها وحكمتها فهي حيوانات وفيّة ، وذات كرامة ، بحيث تحزر موعد موتها وتمشي في جنازتها باتجاه المقبرة..
هناك فرق بين من علمه أبوه ركوب الخيل ومن اوصاه والداه بانتظار الخيول حتى تهرم وتتقاعد بحيث لا تصلح الا للحراثة أو جر العربات.
ان هذا البعد التربوي المحذوف من حياتنا لأسباب لا نعرفها كان له دور البطولة في التكوين النفسي للأفراد ، وللمفاهيم التي تتشكل لديهم عن العالم والآخر اضافة الى الذات ، فكيف يستوي من كانت أمه تقبله وتزغرد اذا قال لها بأنه سرق قلم زميله في المدرسة والذي كان يشطر قلم الرصاص نصفين ليعطي زميله نصف القلم اضافة الى الممحاة،
وأية سايكولوجيا تلك التي سوف تتكون لمن كان يرى أباه ينحني حتى يلامس جبينه القدمين تزلفاً أو طمعاً في جاه كاذب مقابل سايكولوجيا أخرى لمن رأى الناس يهللون ويكبرون وهم يحملون أباه الشهيد على الأكتاف؟
اننا بعد كل هذه العقود من التجوال في المدن والكتب والنفوس على اختلاف معادنها نعود الى السطر الأول الذي طالما تهربنا منه أو حذفناه ، وهو كيف تربينا ومن الذين علمونا الدرس الأول في الصدق أو الكذب ، وفي الكبرياء أو المهانة.
لا يعقل أن تكون هذه الظواهر الكارثية التي تجسدها نماذج تتفوق على الحرباء في التلون وعلى التماسيح في البكاء الكاذب بلا جذور ، فإن كان من رضع الحليب المسموم مثقفا فهو سيوظف كل ما قرأ وسمع لتطوير وتحديث أساليب الاحتيال والممالأة ، وهناك أذكياء لا حصر لهم يشبهون الباعة المتجولين إذ يعرضون ذكاءهم للايجار.
ان الآباء الجديرين بالامتنان والعرفان حتى القيامة يستحقون بعض العتاب أحياناً لأنهم نسوا للحظة أن الصادق بين الكذابين ضحية محتمة ، وأن من لا يشرب من نهر الجنون سوف يعاقب بكل القسوة التي يملكها المجانين،
فنحن في زمن العتاب المعكوس والذكاء المهان والحماقة الظافرة والكذب الذي يقابل بالتصفيق..
عزاؤنا هو ما تبقى من طائر البطريق في المحيط المتجمد لأنه يقضي العمر في الدفاع عن جنسه ضد الانقراض ، أو ذلك العصفور الذي وقف على عقارب ساعة بيغ بن ليعوقها دقائق عن الحركة احتحاجاً على سماء ملوثة بدخان الطائرات التي تغير على الأطفال والأشجار والمعابد بحثاً عن الشيطان،،
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور