لم يعد انفصال الجنوب السوداني عن شماله بحاجة الى استفتاء.. رغم ان هذا الاستفتاء بدأ اليوم وكأنه مجرد واجهة بروتوكولية ، فمن كانوا حتى وقت قريب ضد الانفصال تأقلموا بالتدريج مع الأمر الواقع ، ومنهم من وقف بلا حول أو قوة ازاء هذا القرار المصيري الحاسم ، اما الجنوب ذاته فقد ردع الشمال بيافطات وشعارات ودق طبول ، وان كان هناك في عمق السودان ناي شجي لا يسمعه أحد ، والآن لم يعد انفصال الجنوب هو المسألة ، فقد بدأت روائح ورياح تهب مثقلة بنذير آخر هو شرق السودان وغربه ، بحيث يصبح السودان أربعة ومن يدري الى اين يمكن لهذه المتوالية الانشطارية ان تصل،

لقد تدرب العرب وتأهلوا للانفصال اكثر من الوصال خلال القرن الماضي ومنذ سايكس - بيكو التي اصبحت من كلاسيكيات التشظية ، فما اضافه العرب الى ذلك التقسيم الكولونيالي هو نوع من التفريخ ، بحيث يعاد النظر في تضاريس الوحدة الوطنية بحثا عن خطوط طول وعرض متوازية ولا تلتقي،

قبيل الاستفتاء على انفصال الجنوب وبيومين فقط بدأت مشكلة شمالية ذات صلة بالنفط ، وسوف تعقبها ايضا مشكلات اخرى ، كثيرها غير محسوب ، وقليلها فقط هو ما تتداوله الميديا لكأن المقصود بهذا القليل السطحي اخفاء الكثير الغاطس في أعماق النيل،

نعرف ان محاولات الاستدراك حتى لو وجدت هي عديمة الجدوى ، لأن الفأس ذات المقبض الأنبوسي الاسود وقعت في الرأس ، وقد يراد لهذا المشهد ان يتحول الى عينة انفصالية قابلة للتعميم والقريب معا ، خصوصا بعد ان سمعنا من البعض آراء غريبة حول الاسباب التي أدت الى هذا الانفصال ، تماما كما ان هؤلاء الفقهاء وجدوا سبباً مقنعاً لما يقترفه الجواسيس بحق البلاد والعباد هو انهم عاطلون عن العمل ، والحقيقة انهم عاطلون عن الوطن والذاكرة والوعي والذات ايضا،

قبل خمسة عقود ودع السودان مصر أو ودعت مصر السودان لا فرق ، لأسباب بدت يومئذ قابلة للمناقشة ومنها ان مصر لا تريد ان ترث السودان كتركة استعمارية بعد الاحتلال البريطاني لمصر والسودان ، لكن هاجس الانفصال في ثقافة العرب السايكس - بيكوية تنامى ، ووجد من ينفخ فيه ، واذا كان هناك قوى أجنبية تستفيد من هذا التمزق ، فان هناك ايضا قوى محلية ، تحلم بالسلطة حتى لو كانت على شبر واحد من الارض لم يتبق له الا ملعقة واحدة من الماء،

المثير بالفعل هو التعامل العربي في النطاق القومي أو ما تبقى منه على قيد الجغرافيا والتاريخ مع ظاهرة الانفصال والاستفتاءات التي قد تتكرر في مواقع اخرى في ضوء تصنيفات اثنية وطائفية وعرقية.

ان الاستقلالات التي حققها العرب عن الاحتلالات والانتدابات الاستعمارية رغم التفاوت في جدية الاستقلال او شكليته تبقى اقل اثارة للفرح ودق الطبول من استقلالهم عن بعضهم ، تبعا لما قاله شاعرهم ذات يوم وهو ان ظلم ذوي القربى أشد مضاضة.. والحقيقة التي نتهرب في مختلف المناسبات من الاقرار بها هي أن العربي يصبح أشد قسوة على توأمه من العدو اذا أزفت لحظة الاختبار ، فهو احيانا حاتم الطائي ازاء غزاته يذبح لهم الحصان والولد اذا تطلب الامر..

انها سايكولوجيا بحاجة الى بحث وتدقيق والتهرب من مواجهتها اضافة الى الاعتراف بها هو وقتي سالب بامتياز وانتحار ماسوشي على طريقة القطط،


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور