ثمة مستويان في قراءة "الأحداث" الأليمة لمباراة الفيصلي والوحدات، المستوى الأول هو ما حدث بعد المباراة مباشرةً من انهيار "شبك المدرجات" وتعرّض جمهور الوحدات لاعتداء من الدرك، والمستوى الثاني يتعلّق بأجواء المباراة عموماً، وما تعكسه من احتقانات اجتماعية وإفرازات للأزمة السياسية، تتضافر مع مؤشرات أخرى على انتشار العنف الاجتماعي وتراجع الشعور بالأمن المجتمعي في السنوات الأخيرة، وهو المستوى الأخطر الذي سأخصص له مقال غدا الثلاثاء، إن شاء الله.
في مواجهة المستوى الأول، أي ما حدث بعد المباراة، فقد أعلنت وزارة الداخلية عن تشكيل لجنة تحقيق من الوزارة نفسها، وتقديم تفسير لما حدث ومحاسبة المسؤولين. هذه اللجنة لن تحظى بالقبول، فوزارة الداخلية هي مظلة الأجهزة الأمنية، وما حدث هو اعتداء من أفراد في هذه الأجهزة على مواطنين، وذلك يقتضي تشكيل لجنة تضم مؤسسات أخرى رسمية ومدنية، فيها ممثل عن وزارة العدل والمركز الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني ونقابة المحامين، حتى تكتسب ابتداءً ثقة الرأي العام.
ليس من مصلحة الحكومة أن تأتي بلجنة تكون وظيفتها كالاسفنجة لامتصاص الغضب وكسب الوقت، فمصداقية الحكومة في الاختبار إما أن تعيد ترميم الثقة بينها وبين الناس، وإما أن تعزّز فجوة الثقة المتنامية بالحكومات من جهة، وباللجان الرسمية التي تنتهي إلى نتائج محدودة وضعيفة لا تقنع الرأي العام.
كشف ما حدث بصورة موضوعية وموثقة وعرض النتائج على الرأي العام يعكس مدى جدّية الدولة في التأكيد على مبدأ سيادة القانون على الجميع ودولة المواطنة، ويكسبها احتراماً كبيراً داخلياً وخارجياً، ويؤكّد أنّنا دولة مؤسسات لا تخشى مبدأ المحاسبة والمسؤولية القانونية والإدارية.
الجمهور الذي تعرّض للاعتداء يعبّر عن قاعدة اجتماعية أوسع، وهنالك من يسوّق انطباعاً، لئيماً، بأنّ ذلك مقصود، وهو بالتأكيد انطباع خاطئ ولا يتناغم مع سياسات الدولة، وليس في مصلحتها تعزيز هذه الإدعاءات، بقدر ما يعكس ممارسات تخفي انحيازات رياضية- نفسية لدى أفراد من الأمن، لم تظهر حديثاً بل هي قديمة، كان يجب معالجتها مسبقاً في عمليات التثقيف والتدريب الداخلي.
لكن الفرق هذه المرة هو الإفراط في استخدام القوة، ما أدى إلى انهيار شباك المتفرجين ورفع عدد الإصابات بين المواطنين والصغار خصوصاً، الذين جاءوا لمشاهدة مباراة كرة قدم!
في هذا المستوى من القراءة هنالك نوعان من المسؤولية المترتبة، الأولى مسؤولية فنية ومهنية تتعلّق مباشرة بما حدث في المباراة، وعجز الدرك عن احتواء المدرجات بصورة سلمية، وضمن الحد الأدنى من الأضرار، وهذا سيطاول الإدارات الميدانية والأفراد الموجودين.
المسؤولية الثانية وهي الأدبية والسياسية، التي نسعى لأن تكون عنواناً من عناوين الإدارة والمحاسبة والمساءلة، وهذه تدفع إلى محاسبة المسؤول الكبير قبل الصغير، وتحمل القيادات للتبعات والتداعيات، إذا أردنا فعلاً أن تكون هذه المباراة "نقطة تحول" لوقف الأضرار والشروخ في ثقة المواطنين بمصداقية الدولة وجديتها.
الزاوية الأخيرة من زوايا هذه القراءة ترتبط بـ"المصادفة" الزمنية بين نشر ويكيليكس لتقرير السفارة الأميركية حول مباراة الفريقين في العام الماضي، وهو تقرير أحدث قلقاً لدى المسؤولين، لكن نتيجة المباراة بعده جاءت أسوأ!
التقرير فيه ما فيه، ومصدر دبلوماسي أميركي يؤكد لي أنه يعكس ما يسمعه أفراد من السفارة من الشارع وبعض النخب، ولا يمثّل موقفاً رسمياً، ولا يمر بقنوات تنخيل، فهو مادة خام. لكن ما يعنينا هنا تحديداً أن نكون أجرأ فيما بيننا على مناقشة قضايانا ونطرحها بصراحة وبعقلانية، حتى لا تكون مدخلاً للتوظيف والاصطياد والضغوط الخارجية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد