لم يحدث من قبل أن تبادل العرب تهمة الاختطاف على هذا النحو الذي يصور تاريخنا الحديث كما لو أنه حرب بين الخاطف والمخطوف ، في ثورة يوليو عام 1952 قال حزب الوفد المصري ان ضباط يوليو اختطفوا منهم الثورة ذات البعد الاجتماعي والمدني وعسكروها ، وثمة عبارات صريحة لفؤاد سراج الدين في هذه المسألة ، ولم ينج حتى الاسلام من تهمة الاختطاف وكذلك القضية الفلسطينية ، وأخيرا ما يقال عن اختطاف ثورة أو انتفاضة الخامس والعشرين من يناير في مصر..
ولا ندري كيف يمكن الاحتكام للفرز بين الخاطف والمخوف في هذه الحرب طويلة الأمد ، والتي تحدث بالتقسيط غير المريح للناس جميعا رغم انه مريح جدا لمن يتدفأون على النار عن بعد ، ويشعلون الحرائق كي تصبح الفوضى "الخلاقة" هي خارطة الجحيم الوحيدة في هذا العالم.
لسنا هنا بصدد المفاضلة بين الجائع والمعدم أو بين المحتضر والميت أو بين المظلوم والمُفترى عليه. فمن حق الناس ان يتدافعوا كي ينتسبوا الى هذا الشقاء أو ذاك. وليس غريبا عن الاطلاق ان يجد المعدمون ومن يشعرون بالعسف في أي حراك سياسي أو اجتماعي فرصتهم التاريخية ، لأن ما يمور ويغلي في باطن الأرض يبحث عن قشرة رقيقة وهشة كي يندلع منها ، وأبسط القواعد الفيزيائية ومنها فيزياء التاريخ ايضا ان الضغط يولد الانفجار ، وان لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه ، رغم ان فيزياء التاريخ تضيف الى رد الفعل قوة اضافية ، هي قوة المديونية والتسديد ونسبة الربا المتراكم بين الدائن والمدين،
وبامكان الفتاة المصرية التي دعت الى هذه الانتفاضة الشبابية عبر الانترنت ان تقول بأن هناك من اختطفوا منها المبادرة ، لكنها بالتأكيد لن تفعل ، فالامور لا تقاس هكذا ولا يطبق قانون الملكية الفردية على الحراك البشري،
ان مسألة الاختطاف هذه تتحول الى متوالية لا نهاية لها اذا اردنا بالفعل ان نتقصى عمليات الاختطاف بدءا من الحقوق الانسانية والحريات حتى الثورات والانتفاضات ، ولأن العرب أمة حديثة عهد بالديمقراطية بالمعنى الدقيق والمعاصر لهذا المصطلح فهي لا تزال في طور التدريب والتأهيل ، لهذا يتردد مصطلح الاجتثاث في أدبياتها السياسية ، ويجد الثأر بمعناه القبلي مجالاً حيوياً لتصفية الحسابات.. ولو شئنا التوسع في مفهوم الاختطاف فان اكثر من ربع مليار آدمي في تضاريس هذا الوطن العربي مختطفون بشكل او بآخر ، وثمة حالات من الاختطاف السايكولوجي يقوم بها الافراد ضد انفسهم ، اذا ما تمكن منهم الوعي الزائف ولعقوا المبرد الحديدي واستمرأوا مذاق دمهم وهم يدركون ، وقد لا تكون اللحظة مناسبة لكتابة توصيف معمق لما يحدث عبر مختلف خطوط الطول والعرض للنظم العربية ، فالحساء لا يزال يغلي على النار ، وقد يفاجئنا الغد بما لا نعلم ، لكن ما يستحق التوقف عنده الآن هو تلك الشخصيات السياسية التي كان شعارها وما يزال رجالا لكل العصور ، فهم ينتظرون حركة الريح شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ويكتبون ويتكلمون بنصف لسان ، لأنهم مدربون على ابقاء الاحتياطيات ، فهم مع الرب ومع قيصر بالدرجة ذاتها ، ومع الحرية والارتهان بالقدر نفسه ، ولا مانع لديهم ان يقبلوا ظهر المجن في أقل من أربع وعشرين ساعة ، أو ان يستديروا مئة وثمانين درجة خلال خمس دقائق فقط..
هؤلاء المناشير الذين يريدون قضم الجذوع كلها صعودا وهبوطاً سقطت أقنعتهم تباعاً وانتهت صلاحيات المخدر الذي كانوا يحقنون الناس به.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور