أتيح لنا خلال الأيام القليلة الماضية، مع عدد من الزملاء الكتّاب والصحافيين، الاطلاع على الجزء الغاطس تحت الماء من التجربة الإسلامية التركية الجديدة، وهو الجزء الأكثر عمقاً وأهمية في قراءة التحولات البنيوية واستنباط الديناميكيات المؤثرة فيها، ومن ثم الإفادة منها في العالم العربي والإسلامي.
بالضرورة لن تكفي مقالة واحدة أو حتى سلسلة مقالات لمناقشة هذه التجربة الثرية، بخاصة أنّها متعددة الأبعاد والمستويات. ففي أيام معدودات في اسطنبول، زرنا صحيفة الزمان، ومستشفى سما، ومدارس متعددة، وجامعة محمد الفاتح، ومؤسسة أكاديمية للبحث العلمي تُصدر عشرات المطبوعات الدورية بعدة لغات، وتجمعا لرجال الأعمال والصناعيين الأتراك "تسكون"، وغيرها من مؤسسات أخرى.
القاسم المشترك بين هذه المؤسسات الاقتصادية والتربوية والتعليمية والإعلامية الناجحة أنّها جميعاً من أسرة واحدة، وتنتمي لمدرسة فكرية جارفة يمثل العالم التركي فتح الله كولن الأب الروحي لها، وهو أحد أبرز المفكرين والعلماء الأتراك المعاصرين، ويعيش حالياً في الولايات المتحدة بعدما تعرض لمتاعب كبيرة مع التيار العلماني التركي.
تتأسس مدرسة كولن على المقولات النظرية نفسها لخطاب النهضة العربي، الذي دشنه محمد عبده ثم مالك بن نبي وغيرهما، لكن الفارق الكبير جداً (بالطبع) أنّ كولن حوّل هذه المقولات إلى واقع عملي ناجح في تركيا، من خلال التركيز على مقارعة ثالوث التخلف (الفقر، الجهل، التفرقة)، بالعمل على إيجاد نهضة علمية وأخلاقية وتعليمية وصناعية؛ جيل جديد يتسلح بالمعرفة والإيمان ويؤمن بالاقتصاد كمحرك لعجلة التقدم.
الاختراق الحقيقي المذهل لنا، في العالم العربي، يكمن في التجاوب الكبير لدى رجال الأعمال والأثرياء مع هذه التجربة ومع فكر كولن. وقد ساهم هذا القطاع الحيوي في وضع قدراته المالية والاقتصادية في خدمة بناء المؤسسات المتنوعة الجديدة، من خلال الوقف والتبرعات والإدارة والتعاون الناجح.
اليوم هنالك عشرات الجامعات وأكثر من ألفين من المدارس (في تركيا وخارجها)، وأكبر صحيفة يومية وأهم المجلات الأسبوعية والعلمية وأبرز المطبوعات الأكاديمية ومدن جامعية ومستشفيات حديثة من أفضل المستشفيات في العالم، ومؤسسات إغاثية، كلها أصبحت بمثابة مداميك النهضة الاقتصادية والتنموية التركية الحديثة، وتساهم في تعزيز عوامل التقدم في المجتمع، وهي أحد أهم مصادر وأسرار القوة الناعمة التركية في العالم.
مدرسة كولن تعلن بوضوح أنّها لا تتدخل في السياسة، وليست معنية بالأنشطة الحزبية أو العمل المعارض المباشر، لكن الملاحظة التي تسجلها بذكاء د.نادية مصطفى (خلال مؤتمر حول فكر فتح الله كولن) أنّ هذه المدرسة تنعتق من المعنى التقليدي للسياسة، والذي يقوم على مفهوم الصراع والتمركز حول السلطة، إلى المعنى الإسلامي، وحتى الجديد، بأنّها رعاية مصالح الناس والمجتمعات.
هذه الشبكة الواسعة من المؤسسات المدنية المنفتحة على المجتمع، وغير المتعصبة لأيديولوجيا أو حزب معين، والتي تتحدث باسم النهضة التركية العامة، وتمثل الوجه الجديد لتركيا الإسلامية المنفتحة الحداثية، هي القاعدة الحقيقية لحزب العدالة والتنمية، وهي التي تعمل في الجذور والقواعد المتماسكة الصلبة التي توفر القاعدة الشعبية والدعم السياسي لحزب العدالة.
التغيير عبر تحريك عجلة الاقتصاد والتنمية، وبمساهمة فاعلة من القطاع الخاص، عبر ترسانة جديدة من الفتاوى والأفكار الإسلامية-الحداثية، والانطلاق من المجتمع المدني.. هذه ملامح تستحق الدراسة العميقة والمقارنة ويمكن أن تفيد منها مجتمعاتنا، وليس فقط الحركات الإسلامية.
ما تزال التجربة قيد الدراسة، لكن من أطلق عليهم كولن "حفنة من المجانين" أثبتوا أن الجنون هو الاستسلام لليأس وليس الانطلاق نحو التغيير.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد