كم زرقاء يمامة وكم أزرق شام أو بمن قلعت عيونهم لأنهم قالوا بأن ما نراه ليس أشجارا تمشي ، وان الدخان الذي بدأ يحجب الآفاق ليس غيوماً تعدنا بشتاء سخيّ،

ما من مثقف أو ناشط أو حتى مواطن عادي استشعر الخطر الداهم ذات يوم الا وسخرنا منه ، لأن المنطق السائد هو اسرق ما استطعت وأضرب واهرب ، ووظف وعيك وذكاءك لخداع الناس من حولك ، وارفع شعارات ثم مارس نقيضها ، وأخيراً اقسم نفسك الى اثنين واحد يكذب والآخر يبشر بهذا الكذب ، لهذا ضاقت الأوطان حتى أصبحت حارات ، وعادت الدول الى ما قبل القرن التاسع عشر.

هؤلاء الذين بحت أصواتهم من النذير ، وقلعت ألسنة الاجراس التي كانوا يدقونها علينا أن نعتذر اليهم سواء كانوا أحياء أو موتى.

قبل أن تتحول بلاد ما بين النهرين الى جحيم ما بين نارين سمعت من عالم الاجتماع الراحل د. علي الوردي ما لا أنساه حتى الموت ، وهو يحذر مما جرى وكأنه يراه عن بعد.. واضطر الدكتور الوردي ان يصمت ويكف عن النشر لأن صوت الطبول كان أعلى.

وقبل أقل من عام سمعت من الصديق الفقيه الدستوري د. يحيى الجمل في القاهرة وصفاً دقيقاً للمشهد الذي نراه الآن ، وظننت للحظة أن الدكتور الجمل يبالغ ، وكان قد كتب مقالة بعنوان مصر التي في خاطري عبر فيها عن مخاوفه مما سوف يجري اذا استمر الحال على ما هو عليه.

لقد طرب النظام السياسي العربي على تفاوت أنماطه للمدائح الكاذبة ونفاق الدببة التي طالما ألحقت الأذى بأصحابها وهي تحاول انقاذها من الذباب.. ومن يدمن الاطراء يصعب عليه ان يتحمل كلمة نقد واحدة حتى لو صدرت عن أناس دوافعهم وطنية خالصة وغير مشوبة بحسابات صغرى.

ان أهم ما يمكن استخلاصه الآن من هذه المشاهد المغطاة بدخان الحرائق وغبار الارصفة بعد ان خلعت حجارتها لتستخدم سلاحاً في حوار أهلي هو أقرب الى حرب ، أن نتحسس جميعاً الأرض الرخوة التي نقف عليها وندرك ان الدوامات التي يعج بها الواقع العربي سوف تبتلع الجميع ، فما من أحد الآن على رأسه ريشة كما يقول المثل والمتوالية قد لا تتوقف عند أي حدّ.

ولا أدري لماذا تطرد التحليلات ذات المرجعيات المعرفية من هذا المدار الفضائي ، فالمحنة أعمق وأبعد مما يبدو لنا على السطح والغاطس من جبال الجليد في مياهنا العربية رغم ضحالتها أعظم من المرئي ، لهذا فارتطام القوارب والسفن محتم،

ان شعوباً تعيش ما قبل الماغناكرتا وما قبل الدولة حسب تعريفها الدقيق ستجد نفسها بلا بوصلة ، وقد تآكل بعضها قبل أن تهتدي الى الباب الذي حلمت بالدخول منه الى مستقبل أفضل.

وبامكان أي انسان سواء كان مواطناً عادياً أو في سدة الحكم ، ان يضع في أذنيه الطين والعجين ، وألا يرى غير ما يشتهي رؤيته ، وألا يسمع غير صدى صوته وأصوات من ينافقونه الى ان يفقد الصولجان ، لكن هذا الانسان عليه ان يتوقع العاقبة ، وهي بالتأكيد ليست سعيدة ، ومن لا يصدق عليه ان يعود الى ملف لم يغلق بعد بدأ من بواكير التاريخ وقد لا ينتهي على الاطلاق..

ان العرب الآن يدفعون ثمن تغليب الولاءات على الكفاءات ، والنفاق على النصيحة والوجبة القادمة على المستقبل برمته..

وباختصار ثمة من يستحقون الاعتذار في قبورهم أو في عزلتهم ، مقابل من يستحقون العقاب ممن كذبوا وكذبوا حتى صدقوا أنفسهم،؟


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور