لو طُرق الباب في ذلك المساء الصيفي القاهري الرطب وقال لنا في نادي سويرس بغاردن سيتي ، ان هذا الرجل الذي تجاوز الثمانين ولا يزال يحتفظ بعافية الذاكرة والقلب ، ويشكو لنا مما آل الحال اليه في مصر ويردد القصيدة الشهيرة مصر التي في خاطري انه سيصبح بعد شهور من ذلك المساء نائبا لرئيس وزراء مصر ، يناط به وبزملائه تعديل او تغيير الدستور ، ويدخل الى المسرح السياسي الذي كان مطرودا منه من اوسع الابواب لقلنا ان من يخبرنا بذلك عراف او رجل امن يستدرج الرجل الى ما لا يشتهيه.

انه الدكتور يحيى الجمل ، الذي روى لي اكثر من مرة حكايته مع يوليو ، وصراعه مع اسرته الاقطاعية بعد ان اصبح ضدها وضد ثقافتها ، ولان يحيى الجمل من جيل مخضرم وهو من الذين يستحقون ان يقال عنهم بانهم الادرى بشعاب مصر ، فهو الان يقرع اجراسه مثلما قرعها من قبل ، محذرا المصريين والشباب خاصة من الثورة المضادة ، فالاهم من تحقيق اي انجاز هو الابقاء عليه واستثماره وبعكس ذلك تكون الانتكاسات ، ويخيب الرجاء ، هو من جيل ادرى بالثورات المضادة ، لانها عايش يوليو بخيرها وغير خيرها ايضا ، وشهد ما فعله انور السادات بمنجزات سلفه حين فككها وفرط النسيج خيطا خيطا.

وقد ينفرد يحيى الجمل الان في الالحاح على استعادة مصر لدورها العربي والاقليمي لان الرجل عاش العصر الذهبي لمصر مثلما عانى من العصر القصديري الذي غمره الصدأ عندما تعرضت عروبة مصر الى تجريف ونأى بها من نأى عما يسميه عالم الجيوبولتيك د. جمال حمدان قدرها القومي ، فالنيل كما يقول يجري شرقا،

ان ما يعطي تصريحات د. الجمل اهمية استثنائية في خضم التصريحات التي تملأ الدنيا هذه الايام هو هذا الموقف من عروبة مصر ، فهو ممن تحملوا ودفعوا ثمن الاطروحة القومية المضادة لاطروحة الانعزال والاستقالة من السياق القومي ، د. الجمل كما عرفته يتميز بموضوعية نادرة في الطبقة السياسية ، واذكر انه روى لي حادثة تستحق ان تروى الان ففي احدى زياراته لعمان ولقائه بالراحل الحسين وكان على رأس وفد يزور الاردن ، طلب من الملك الراحل ان يتحدث لهم عن المشهد العربي كما يراه.. ثم فوجئ د. الجمل بالملك حسين يقول له ، انا عندما يتاح لي ان التقي بمفكرين ومثقفين عرب ، افضل الاستماع اليهم اولا ، فانتم الاكثر تفرغا لقراءة واقعنا ونعتز بتجاربكم ، وقد تركت تلك العبارات اثرا عميقا في نفس الدكتور الجمل وهو الذي عاش فترة من الخصومة السياسية مع الراحل الحسين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي،

واظن ان من كان صادقا مع نفسه وتمرد على عائلته الاقطاعية وانحاز للفلاحين ثم بقي صائما عن السياسة كي لا يفطر على بصلة كما فعل الاخرون ، فافطر على الخامس والعشرين من يناير ، اليوم الفاصل في التقاويم المصرية.

ان ما يحدث في مصر الان يغمره بعض الدخان واحيانا رياح الخماسين قبل هبوبها ، فما يقوله د. الجمل ويحذر منه يجب ان يؤخذ على محل الجد ، ليس فقط لان الرجل مجرب وملقح ضد كل المضادات الوطنية ، بل لان الظرف الموضوعي داخل مصر لا يزال ملغوما ايضا..

والخيول التي ادمنت جر العربات الى الوراء قد يعز عليها وتعجز عن الانضمام الى الخيول التي تجرها نحو المستقبل.

فالمسألة اولا واخيرا مصالح ، ومن يدافعون عن مكتسبات شخصية وغنائم سياسية قد يفضلون الخاص والشخصي على العام والوطني ، لهذا نكرر ان ما يحذر منه د. الجمل ليس مجرد خوف مبالغ فيه على الانجاز المصري بل هو واقع ، وله رائحة استطاع د. يحيى وامثاله ان يشموها عن بعد،،


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور