من خصائص الثورات أنها ضد التنميط، ولا تقبل النسخ الآلي عن بعضها، فهي اجتراح لأمن جديد، لكن عالمنا العربي المولع بالتنميط في كل شيء لم تسلم الثورات من نهجه الموروث، والشعارات التي كانت أكثر تداولاً في الحراك الشعبي العربي منذ يناير تصلح لدراسة نفسية واجتماعية للكشف عن المسكوت عنه والمكبوت والمكظوم غيظاً في اللاوعي الجمعي، وقد يبادر الى مثل هذه الدراسات كالعادة باحثون غربيون، لأن الباحث العربي منشغل بشجون أخرى.

استوقفني مؤخرا شعاران ترددا في طرابلس ودمشق، هما «الله.. معمر.. ليبيا وبس»، كما شهدت المظاهرات الموالية للنظام، و»الله.. سورية.. بشار»، كما تردد في مظاهرات دمشق الموالية ايضا.

والقراءة النفسية والاجتماعية اضافة الى السياسية لهذين الشعارين تضع أمامنا فارقاً جوهرياً الترتيب، ففي ليبيا الرئيس قبل الوطن، وفي سورية الوطن قبل الرئيس، ولهذا الامر دلالاته العديدة المعقدة، فحين يوضع الرئيس أو الزعيم بعد الله وقبل الوطن، فالامر بحاجة الى فحص، رغم ان كلمة «بس» بالعامية في البلدين هي القاسم المشترك بين الشعارين، ومعنى كلمة بس هذه.. هو ليذهب الآخرون الى الجحيم أو ليأت من بعدنا الطوفان.

وما كنت لأتنبه الى هذه الظاهرة التي تبدو لدى الكثيرين من هواة الاختزال والتنميط عابرة لولا دراسة معمقة كتبها الروائي كونديرا قبل أعوام حول النشيد الوطني في معظم دول العالم، ووجد أن النشيد يتعاظم ويمتلىء بالمزاعم كلما كانت الدولة أكثر ضعفاً وأقل شأنا بالمعايير الدولية، وكأن المسألة تعويضية، فمن يثرثرون كثيراً عما يملكون يدفعوننا الى الشك في جدية ممتلكاتهم سواء كانت مادية أو معنوية.

ولا أفهم كيف يردد شعب ما شعارات تقدم الزعيم على بلاده الا اذا كان المقصود هو المفاضلة بين الاثنين، واذا كان لا بد من التضحية بأحدهما فلتكن بالبلاد والعباد فداء للزعيم وجذور هذه الظاهرة تعود الى عقود ماضية خاض فيها العرب حروبا انتهت بهزائم يصعب الشفاء من جراحها النفسية وما أفرزته من احباط.

ففي تلك الحروب سمعنا من يقول بأن ما جرى ليس هزيمة بل هو انتصار لسبب واحد فقط هو ان الاعداء كانوا يستهدفون الزعيم وفشلوا في ذلك.

تلك كانت البذرة الاولى، ثم وجدت من يتعهدها ويسقيها بالحبر المغشوش كي يتنامى وتصبح على ما هي عليه الآن، الزعماء اولا ثم الاوطان، ولولا الخوف وليس الخجل لما تردد البعض في تقديم الزعيم على هذه الاقانيم الثلاثة.

قلناها مراراً، ولن نخشى من التكرار، ان الثورات الحقيقية لا تستهدف اشخاصاً أو حتى سلطات بقدر ما تستهدف منظمة من المفاهيم التي فندت صلاحيتها، وحين يسقط الرؤساء وتبقى المفاهيم والحاضنات ذاتها فان تكرارهم يصبح مؤكدا وربما بصورة أشد ضراوة وقسوة، فكل شيء في العالم يخضع للتطوير والاضافة، بدءا من ادوات التعذيب حتى أنماط الحكم الشمولي والديكتاتوريات العمياء.

لم يردد العرب قبل هذه الشعارات جملة أو قولا أكثر مما رددوا «حسبي الله ونعم الوكيل»، رددتها أرامل العراق وفلسطين ولبنان ورددها من هضمت حقوقهم في عز الظهيرة السوداء، لأنها كانت التعبير الاعلى عن الاحساس بفقدان الحول والقوة.. لكن ما يتردد الآن في الساحات يحتاج الى فحص، كي نعرف كم هو المنسوب الحقيقي للتغيير في عالم عربي أدمن القطعنة والتنميط.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور