قبل أعوام ربما كانت الأعجف في تاريخنا الحديث سمعت رجلاً طاعناً في السن والسخرية معاً يحوّر أغنية سياسية، تتساءل فيها المغنية بأسى واستهجان عن الملايين، وكان الرجل يبدل كلمة الملايين بالملاليم.. فيغني بصوت أجش وين الملاليم ؟؟

واستطيع ان أتخيل بأن ثلاثة فقط يسخرون من أية مفاضلة رمزية بين المليم والمليون، الاول كلبي وعدمي يتساوى البصل والورد في ميزانه الاعمى. والثاني ديوث يحب المال بمعزل عن وسائل كسبه حتى لو كان على حساب لحمه ولحم ذويه. والثالث برغماتي لو كان يحمل ابنه في الماء لرماه أو صعد على جثته إذا خذله الموج

أما من تبقى من البشر، الذين يكدحون من أجل القليل، واحيانا لسد الرمق، ومن يجعن ولا يأكلن بأثدائهن ومن ينامون على الطوى رغم انهم خبزوا طحين الماس تاجاً لكبريائهم، فإن المليم بالنسبة اليهم قد يكون أهم من المليون لأن قليلهم كثير اذا كان من عرقهم وجهدهم، وكثير سواهم أقل من القليل اذا كان ثمن الكرامة أو من سمسرة لا تعف حتى عن دم الشقيق.

وأذكر انني سألت الصديق الراحل عبدالوهاب البياتي ذات يوم عما قصد اليه بقوله:

أخاف عليك يا فقري

أخاف عليك أن تسرق

أخاف وأنت لا تدري؟

فأجابني البياتي ان بعض من اساؤوا تأويل هذه الكلمات ظنوا بأني أحول الفقر إلى مطلب قومي، وتلك بالطبع ماسوشية، أنا بريء منها، وأضاف البياتي الى تلك الأبيات من القصيدة ذاتها وهي وصية الى ابنه علي:

فقراء يا ولدي نموت

وقطارنا أبداً يفوت

واذكر ايضا ان سيدة عجوز سألت انيشتاين الذي كان جارها عن معنى نظريته النسبية، وكانت العجوز عديمة العلاقة بالفيزياء والعلوم كلها، فحاول انيشتاين تبسيط المسألة، وقال لها ماذا تفعلين في الشتاء اذا كان الجو بارداً وأنت في الشارع؟ فأجابته بأنها تنفح زفيرها الساخن وما يعلق به من بخار على يديها، ثم سألها ثانية ماذا تفعل بالحساء اذا كان ساخنا جدا وهي جائعة؟ فاجابت بانها تنفخ زفيرها عليه كي يبرد.. ولم تفهم العجوز قصد انيشتاين الى ان قال لها مداعبا بتواضع العلماء.. النسبية هي ان تستخدمي زفيرك للتسخين والتبريد لكن في حالتين متوازنتين ولا تلتقيان

وبهذا التبسيط الانيشتايني نضيف الى تلك العجوز وسواها بان المليم اكثر واغنى من المليون خصوصا اذا كان المليون ثمن الكرامة او بسبب الافراط في الانحناء والنفاق والاتجار حتى بالدم.

ورغم السخرية المتوقعة من الثلاثة الذين ذكرتهم لان الاصفار تصيبهم بالعمى والدوار حتى لو كانت نقاطا من الدم الا ان الملاليم اذا كانت محررة من الزور والدناءة والغدر هي اغلى واثمن من المليارات والتريلونات وكل الارقام الفلكية.

اما ذلك الطاعن في الخذلان الذي بدل كلمات الاغنية من الملايين الى الملاليم فقد فعل شيئا ابعد بكثير من سخريته عندما بسط بدوره نسبية انيشتاين والتي تتلخص سياسيا قدر تعلقها بالفيزياء العربية في معادلة واحدة.. هي ستون عربيا امام اسرائيلي واحد.. واحيانا وراءه


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور