أ.د. حلمي محمد القاعود
أول تطبيق للعلمانية كان في فرنسا . وقام على أساس الفصل بين الكنيسة (
السلطة الروحية ) ، والدولة ( السلطة الزمنية ). وليس في الإسلام كنيسة أو
سلطة روحية .
سبق ذلك صراع عنيف بين آباء الكنيسة ، والقوى الحية في المجتمعات الأوربية .
كان صراعا مريرا ، ودمويا في بعض الأحيان ، وكان من أبرز ملامحه العداء للعلم
والعلماء ، وقتل بعضهم أو حرقه نتيجة لما توصل إليه من نظريات مثل دوران
الأرض ، واتهام البعض الآخر بالهرطقة من خلال محاكم التفتيش وكان من ضحايا
هذا الصراع ( كوبرنيكس – جرد انو- ديكارت – سبينوزا – جون لوك ) حيث أدت
الاتهامات إلى قتل البعض أو حرقه حتى الموت أو الحرمان الكنسي من الدنيا
والآخرة !
لقد تحول رجال الدين المسيحي في أوربة ( لا يوجد في الإسلام رجال دين ) إلى
طواغيت ومحترفين سياسيّين ومستبدّين تحت ستار الإكليروس والرهبانية والعشاء
الرباني وبيع صكوك الغفران ( راجع الموسوعة العربية الميسرة في الأديان
والمذاهب المعاصرة – ص367وما بعدها ) .وقد رافق الدعوة إلى العلمانية التى
تعني حرفيا ( الدنيوية ) أو ( غير الدينية ) أو قيام الحياة على أساس غير
ديني وخاصة المجال السياسي ؛ بعض الظواهر والنظريات ، مثل مبدأ العقل
والطبيعة ، وما يسمى بعصر التنوير الذي مهد للثورة الفرنسية ، ونظرية التطور
لتشارلز داروين ، وفلسفة نيتشه التي أعلنت موت الإله وحلول " السوبر مان "
مكانه ، بالإضافة إلى نظريات دور كايم وفرويد وماركس ( لاحظ أنهم من اليهود
جميعا! )وجان بول سارتر وكولن ولسون ( الوجودية واللامنتمي ) .
ولعل الخديو إسماعيل الذي كان مفتونا بالغرب ؛ أول من اتجه نحو علمنة الدولة
حين اعتمد القانون الفرنسى ، سبقته الهند حيث بدأت فى الإلغاء التدريجى
للشريعة الإسلامية بوحى من الغزاة الإنجليز حتى تم الإلغاء فى أواسط القرن
التاسع عشر ، وكانت تركيا ( دولة الخلافة ) أبرز من طبق العلمانية صراحة عقب
إلغاء الخلافة فى 1924م ، وتوالى إلغاء الشريعة فى معظبم بلدان العالم
الإسلامى .. وظهرت نخب ثقافية خائنة للإسلام والمسلمين جعلت ولاءها الأول
للغرب الصليبى الاستعمارى ، ونادت – ولما تزل – بالقضاء على كل أثر للإسلام
فى الفكر والسلوك على مستوى الحكومات والأفراد .
وفى أوائل القرن العشرين تنبه عدد من الكتاب والعلماء الإسلاميين لعواقب عزل
الإسلام واستئصاله من الحياة ، وكان فى مقدمتهم " محمد رشيد رضا " – تلميذ
محمد عبده – وعبد العزيز جاويش ..
وقد ظهرت على مدى القرن العشرين عشرات الكتب والدراسات التى تتناول العلمانية
وعداوتها للإسلام وتأثيرها المدمّر على الإسلام والمسلمين ، حيث بدت أهم
ملامح هذا التأثير فى تمزيق الأمة الإسلامية وشرذمتها وتخلفها وطمع الدول
الصليبية الاستعمارية فى ثرواتها ومواقعها .. ولعل ما كتبه محمد عبد الله
عنان وسفر الحوالى ومحمد محمد حسين وسيد ومحمد قطب ومحمد البهى ، أبرز ما
أُلف فى هذا السياق .
ومع أن الصراع فى الغرب بين الكنيسة والدولة ، انتهى بانتصار العلمانية ،
وتحول أعداد كبيرة إلى الإلحاد ، فقد تمت تسوية الأمر فيما بعد بنوع من
التصالح بين الطرفين ، واستمرار الكنيسة فى أداء دورها الروحى ، بل إن
الكنيسة البروتستانتينية فى إنجلترا وألمانيا ، وتبدو أكثر تحررا من بقية
الكنائس ، جعلت قيادتها للملك أو الملكة فى لندن ، وملكة إنجلترا هى الرئيس
الفعلى للكنيسة البروتستانتينية وهى التى توقع قرار تعيين أسقف كانتربرى
وغيره من الأساقفة فى شتى أرجاء البلاد .
ثم تحول التصالح بين الكنيسة والدولة إلى تحالف بين الطرفين ، تقوم فيه
الكنيسة بدور المرشد والموجّه ؛ خاصة في السياسة الخارجية ،وفى الفترة
الاستعمارية ، لعبت الكنيسة فى الغرب – أيا كان مذهبها – دوراً رئيسياً فى
القيام بدور طليعى استكشافى ، مهمته رصد الواقع فى الأراضى المرشحة للاحتلال
، فضلاً عن القيام بالمهمة التقليدية وهى التنصير ، أو التشكيك فى الدين
الإسلامى وثوابته عن طريق استقطاب العملاء من النخب الحاكمة أو المهيأة للحكم
، لقد بدا أن هناك نوعاً من التحالف الوثيق بين الطرفين ( الكنيسة والحكومة
فى الغرب ) ، لعبت بموجبه الكنيسة خاصة فى القرن العشرين دوراً مكملاً لدور
الحكومات ، وخاصة فى توطيد الوجود الاستعمارى فى البلاد المحتلة من خلال
المشروعات الخيرية فى المستشفيات والمدارس والجمعيات الأهلية ، ثم تطور هذا
الدور فى الربع الأخير من القرن العشرين ليكون دوراً سياسياً مباشراً وعلنياً
، واذكر فى هذا السياق ثلاث وقائع قريبة إلى الأذهان ..
الأولى :
________
تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام ، وفقاً للمعتقدات النصرانية التى
تقول بأنه قُتل بعد صلبه ، وتبع الاعتراف بالكيان النازى اليهودى فى فلسطين
المحتلة .
الثانية :
_______
قيام الفاتيكان بمنع المطران هلاريون كابوتشى مطران القدس المحتلة ، من حضور
مؤتمر القمة الإسلامية الثالث ضمن وفد منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر
عرفات .
الثالثة :
_______
مشاركة الفاتيكان فى عهد البابا يوحنا بولس الثانى فى تفكيك النظام الشيوعى
فى بولندا ومقابلته لزعيم منظمة تضامن البولندية ( ليش فاونسا ) بمقر
الفاتيكان فى جلسة خاصة ، ولم يُعلن عن مضمون ما دار فى هذا الاجتماع حيث ظلت
تعليمات البابا لفاونسا سرّية ، ولم يكشف عنها النقاب إلا بعد سقوط النظام
الشيوعى ( راجع الصحف العربية الصادرة فى 28/1/1981م ) .. وبالفعل فقد تكشف
أن هناك تعاونا بين البابا والرئيس الأمريكى الراحل " رونالد ريجان " – وهو
صليبى متعصب – وليش فاونسا ، استطاعت بموجبه منظمة تضامن أن تُسقط النظام فى
بولنده ، ومن بعده كرّت عجلة السقوط فى أوروبا الشرقية الشيوعية والاتحاد
السوفيتى نفسه الذى تفكك إلى مجموعة من الدول التى أقامت أنظمة غير شيوعية .
هناك عشرات الوقائع التى تؤكد تلاحم الكنيسة مع السلطة فى الغرب لصالح
الصليبية فى العالم ، وبمساعدة الحكومات الغربية ، ومنها بالطبع حكومة
الولايات المتحدة .
وللأسف الشديد ، فإن الكنيسة المصرية الأرثوذكسية ، التى تعد أقرب الكنائس
إلى المسيحية فى حالتها الأصلية ، وظلت على مدى قرون من الزمان مستقلة عن
الكنيسة الرومانية وغيرها ، وقعت فى فخ هذا الاتحاد الذى يحمل صبغة صليبية
استعمارية ، لا تمت للمسيحية الغرّاء بصلة ، ولا تعبّر عن قيمها الإنسانية
التى تقوم على المحبة والتسامح .. ولعل لانضمام الكنيسة المصرية إلى هذا
الاتحاد ، صلة بما يجرى الآن ومنذ عدة عقود على أرض الكنانة مما لاعهد لها به
فى العلاقة بين المسلمين والنصارى !
وقد رأى العالم مؤخرا موجات التعصب المسيحى التى طفت على سطح الحياة الغربية
بصفة عامة ، وأمريكا بصفة خاصة ، وسمع الناس عن الوحى الذى يتنزل على " جورج
بوش " ليقتل المسلمين فى أفغانستان والعراق والصومال وفلسطين باسم محاربة
محور الشّر .. فأين هى العلمانية من السلطة فى الغرب ؟
إن العلمانية هناك لم يعد لها وجود مؤثر وفعّال ، بقدر ما صارت منهجا
لخدّامهم فى العالم الإسلامى ، لاستئصال والقضاء على ثقافته ، وإلغائه من
الوجود ، سواء فى مناهج التعليم أو أجهزة الإعلام أو وسائط الثقافة أو عناصر
السياسة والاقتصاد والتشريع الاجتماعى .
إن النخب الثقافية فى العالم الإسلامى ، ومعها أجهزة الأمن والقوات المسلحة
فى معظم بلاده ، تخوض حربا شرسة ضروسا ضد الإسلام ، لحساب الغرب الصليبى
الاستعمارى المتوحش وثقافته الدموية الإجرامية التى تقوم على النهب والتسلط
والعنصرية .. وللأسف فقد صارت العلمانية هى الراية التى يجتمع تحتها كل عدوّ
للإسلام والمسلمين ، وكاره للإنسانية والسلام .