تشعر بأنك مشغول على الدوام؟ وبأن الوقت يداهمك دائماً بل ليس لديك ما يكفي من الوقت لإتمام المهام التي يتوجب عليك القيام بها؟ “لست وحدك”، يقول متخصّصون، مؤكدين على أن هذا أفضل ما يمكن أن يحدث لشخص ما يبدو مشغولاً بأعمال لا تنتهي طوال اليوم!
بحسب ما هو متعارف من خلال الدراسات النفسية، فإن الشعور بالانشغال الدائم يرتبط في الغالب بكل أنواع الضيق النفسي، القلق، التوتر، إضافة إلى اعتلال المزاج وفقدان السيطرة على ردود الأفعال الغاضبة، خاصة عندما يتسبب الشعور بضغط الوقت في اتخاذ قرارات فاشلة، حيث يتسبب عادة في مشكلات كبيرة خاصة لمن يعمل في مجالات مهنية بالغة الحساسية مثل أصحاب المهن الذين تتطلب منهم مراكزهم اتخاذ القرارات الطبية ووضع الاستراتيجيات المالية، إضافة إلى قرارات شخصية خاطئة قد تتعلق بتناول الطعام بكميات كبيرة أو التدخين المفرط وتناول المسكرات وإهمال الأدوية والعلاج لمن يعاني من المرض.
من جانبهم، يجتهد علماء النفس في البحث عن بقعة الضوء في هذه الإشكالية المظلمة، فيقررون بأن القلق المترتب عن هذا النوع من الضغط النفسي، ربما يحقق بعض النتائج الجيدة إلى جانب سلبياته، قد يكون أبرزها تعزيز الثقة بالنفس شرط أن نحاول إبعاد الشعور بضيق الوقت؛ أي أن نعي بأن مسألة انشغالنا طوال الوقت مردّها إلى أهميتنا الشخصية أو أهمية العمل الذي نقوم به مهما كانت بساطة مركزنا ودورنا في هذه الحياة. الشعور بالأهمية هو الذي يزيد من ضبط النفس والسيطرة على السلوك وبالتالي يعزز مخرجات عملية صنع القرار.
وتؤكد الدكتورة إليزابيث غيلبرت، أستاذة علم النفس في جامعة فرجينيا الأميركية، على أن العلماء قاموا بدراسات عدة للتحقق من تأثير الشعور بالانشغال واتخاذ القرارات؛ أثبتت بأن عقل الإنسان المشغول والمزدحم بالتفكير في المسؤوليات المتعددة، يسهم بصورة أو بأخرى في تشذيب السلوك وضبط النفس وبالتالي في اتخاذ قرارات صائبة، شرط أن يكون مدفوعاً إلى هذه الانشغالات والمسؤوليات بمحض إرادته ولم يقسر عليها، خاصة إذا تعلق الأمر بالعمل الذي يحبه الإنسان.
وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن لا نقوم بمحاولات لأخذ قسط من الراحة والاسترخاء، خاصة في حالات الإجهاد الكبيرة والشعور بعدم القدرة على مواصلة العمل. وينصح متخصصون في هذه الحالة بالتخفيف من بعض الالتزامات أو أن نمنح أنفسنا مزيدا من الوقت لإنجاز ما يتراكم منها أو تفويض بعض المهام لأشخاص آخرين يمكنهم أن يقوموا بها على أكمل وجه، فقط للحفاظ على مستوى مستقر من الوعي والنشاط الذهني للتصدي لمسؤولياتنا وواجباتنا. في النهاية، فإن لمقدرة الإنسان حدود لا يمكنه تخطيها حتى لو أجهد نفسه وواصل ساعات الليل والنهار بالعمل المضني.
على نطاق آخر، ينشأ هذا الإجهاد أحياناً في وقت مبكر من الحياة المهنية بهدف الحصول على المزيد من الفرص، اتخاذ المبادرات والتطوع لمساعدة الزملاء، والقبول بجميع المسؤوليات من أجل تنمية العمل وتعزيز الموقع الوظيفي، إظهار المهارات والإمكانات أمام الجميع وإثبات الذات، يحدث كل هذا بدافع من عدم الرغبة في التخلي عن الفرص السانحة مهما كان الثمن. لكن الأمر لا يبدو كذلك عندما يتخطى المرء سنوات طويلة في العمل، وهو الوقت ذاته الذي تتنامى فيه الالتزامات الأسرية والمسؤوليات الأخرى خارج العمل الوظيفي، حيث يكون الثبات على المواقف الأولى أشبه بورطة وقيد كبيرين من شأنهما أن يوصلا المرء إلى حالة من الانفجار النفسي مردها الضغوط الكبيرة والمتواصلة والقيام بأدوار عديدة والدوران في حلقة متصلة من المسؤوليات.
وهناك تكاليف كبيرة للنجاح سواء أكانت على المستوى المهني أو الشخصي، لكن في الوقت ذاته يتوجب علينا أن نتنازل قليلا عن طموحاتنا وأن نرفض بعض الفرص التي نراها سانحة ومبهرة، لصالح التزاماتنا الأخرى وأهمها مسؤولياتنا العائلية.
من جانبه، يرى الدكتور وليم كوهلر؛ أستاذ في قسم العمل الاجتماعي في جامعة إيدنبورو في ولاية بنسيلفانيا وباحث في مجال الاضطرابات المرتبطة بالإجهاد، أن القليل من التوتر مفيد حيث يتفاعل بعض الأشخاص مع الإجهاد النفسي بطرق أكثر إيجابية، لكن الأمر المهم هو أن لا تصل مستويات الإجهاد إلى مديات عالية يمكنها أن تلقي بظلالها وتؤثر سلبا على جوانب حياتنا المختلفة، صحتنا العقلية وعلاقاتنا الاجتماعية.
عقل الإنسان المشغول والمزدحم بالتفكير في المسؤوليات المتعددة، يسهم بصورة أو بأخرى في تشذيب السلوك وضبط النفس وبالتالي في اتخاذ قرارات صائبة
وأحد أهم الحلول في هذا الشأن هو أن يقوم الشخص المعرض للإجهاد بطلب المساعدة ولكن هذا لا يحدث في الغالب، حيث يختلط عند البعض الشعور الطبيعي بالتعب والشعور بالإجهاد النفسي ما يؤدي إلى تجاهل نداء الجسد والعقل في آن واحد، فإذا كان التصدي للتعب الجسدي بإجبار الشخص على التمتع ولو بقسط قليل من الراحة، فإن الإجهاد النفسي لا يمكن التغلب عليه إذا ما بلغ ذروته وخرج عن إطار السيطرة.
ويورد كوهلر عاملاً آخر يمكنه أن يكون السبب غير المباشر في حدوث الإجهاد المزمن المرتبط بالعمل، وهو الإجهاد اللاحق للصدمة؛ حيث تسهم معالجة صدمة قد يكون تعرض إليها الفرد في الماضي في حل المشكلات الحالية وهي في جزء كبير منها، تتعلق بالمعتقدات التي يحملها هؤلاء عن أنفسهم وعن العالم والناتجة عن الصدمات النفسية التي تعرضوا لها.