يدور النقاش في أوساط نخب مثقفة ومسيّسة في اللحظة الراهنة حول إعادة مناقشة الأولويات الوطنية، بعد أن تصدّر مشروع الإصلاح السياسي المستعجل أجندة الدولة والمسيرات على السواء.
بلا شك، تثوي وراء هذه النقاشات المخاوف التقليدية، لدى هذه النخب، من مآلات الإصلاح السياسي، وفيما إذا كان يُظهر شيئاً ويبطن شيئاً آخر.
تلك المخاوف والمقولات، في الحقيقة، تعيدنا إلى "المربع الأول"، لكن هذه المرة نجد أنّ خط الدفاع عن "المعادلة السياسية" الراهنة هي قوى متحرّكة في الشارع، بالإضافة إلى نخب سياسية، وليس المسؤولين في الدولة، كما كانت الحال سابقاً، عندما كان يحال مشروع الإصلاح السياسي إلى مخرجات الحل النهائي للقضية الفلسطينية.
في المقابل، بدأ يتشكل طرح يذهب إلى أولوية الإصلاح الاقتصادي، لكن في سياق معاكس تماماً لمرحلة "الليبرالية الجديدة"، وإن كان من يطرحونه يختلفون بين الاتجاه اليساري العام (دور الدولة في ضبط الاقتصاد)، والاتجاه التقليدي (الدور الرعوي للدولة، وتوفير الوظائف- كما كان سابقاً)، أو على غرار طرح رئيس الوزراء (الطريق الثالث- لكنه ما يزال خياراً فضفاضاً).
ثمة معضلة حقيقية تواجه هذه الأطروحات "المتجددة"، تتمثل في أنّ المعادلة السياسية الراهنة أصبحت معطوبة، ولم تعد مقبولة، داخلياً وخارجياً، وقد ولدت الأزمات الوطنية الأخيرة جميعها بسبب فشل الإدارة السياسية وتخبطها، وهي حالة باتت محل إدراك حتى من قبل "مطبخ القرار"، ما يعني أنّ الإصلاح السياسي لا مناص منه اليوم، ولا يمكن ترحيله إلى المستقبل.
لن أدخل في جدلية أنّ الإصلاح السياسي هو القاعدة المتينة التي يجب أن يقوم عليها المسار الاقتصادي، وأنّ الخلل الحالي ناجم عن الفجوة بين المسارين، لكن ما نجادل فيه، على الأقل، كما ذهب الصديق فهد الخيطان بالأمس، أنّه لا تعارض بين أولويتي الإصلاح السياسي والاقتصادي.
هنا، تحديداً، دعونا نكون أكثر وضوحاً؛ ففيما يتعلق بالإصلاح السياسي، لا يجوز إبقاء المعادلة الاجتماعية، ومن ورائها اللعبة السياسية، في "المنطقة الرمادية"، وتحت ضغط القلق من فتح ملف "ترتيب البيت الداخلي" ومواجهة الثنائية الديمغرافية! ذلك أنّنا أصبحنا نواجه هذه القضية على صيغة أزمات وتوترات، بصورة مقلقة خلال الفترة الأخيرة، بدلاً من أن تكون مصدراً للتلاحم والتوافق الوطني.
ليس صعباً أبداً، بل أزعم أنها قضية في متناول اليد، أن نعيد ترتيب البيت الداخلي، ونزيل المخاوف ونفتح الأبواب لصيغة نقية صحيّة من العلاقة الواضحة، التي تقوم على الحوار والتفاهم والتوافق ووحدة الحال والمصالح والمصير، مقابل خلافات يمكن تحجيمها وتحديد الصيغة المثلى للتعامل معها.
الملف الآخر، وهو الإصلاح الاقتصادي، بحاجة إلى تعريف أكبر وأوضح، وإن كان اختيار النهج الاقتصادي لا بد أن يرتبط بتحديد قواعد اللعبة السياسية الجديدة، وبخيارات الأكثرية التي تشكل الحكومات، إلاّ أنّ هنالك تعريفا خاطئاً له اليوم، وكأنّ المطلوب الضغط على "الريفيرس" والعودة إلى صيغة "الدولة الرعوية" ونمط العلاقة الزبونية! ليس المطلوب "علاجات" مؤقتة تعقّد الحلول على المدى البعيد، وتؤثّر سلباً على المريض، كاللجوء لتوفير وظائف صغرى تنقل مشكلة البطالة من العبء الفردي إلى الاقتصاد الوطني. بل المطلوب هو ردم فجوة التنمية والخدمات وتحسين المدخلات التعليمية والاقتصادية في المحافطات لتمكينها من المنافسة والتكيف مع التحولات الاقتصادية. ثمة صيغ متعددة من الليبرالية، بين معتدلة ومتطرفة، وما نحتاجه في الأردن ليبرالية معتدلة، تقوم على مبدأ المواطنة، ومنطق الحقوق والواجبات، وليس دولة رعوية تشتري الولاءات بعلاقة غير صحية مع المجتمع!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد