بعيداً عن الامثال والمواعظ ومغنية الحي التي لا تطرب وكرامات الأنبياء في أوطانهم، فالمسألة ذات صلة عميقة ومعقدة بالسايكولوجيا وبمجمل التربويات والمكونات النفسية للانسان، عالجها مفكرون من طراز د. فرانز فانون ومالك بن بني وآخرون، انها فكرة الانسان عن ذاته، والتي قد تكون من صياغة الآخر الغالب سواء كان مستعمرا أو نموذجاً حضارياً مغرياً بالتقليد الذي يصل حد "التقريد"
.
ما صنع هناك هو دائما الاكثر اجتذاباً، واللامرئي يحظى بالفضول أكثر من المرئي، والشاطىء الآخر من البحر هو الأجمل دائماً، أو كما يقول الانجليز ان حديقة الجيران اكثر اخضراراً من حديقتنا.. جربنا مراراً أن نكون هناك، ولاحظنا عن كثب كيف تكون امتيازات القادم من مكان آخر، والمجتمعات التي تحترم نفسها ورموزها، ولا تفقد التوازن وتصاب بالعمى اذا شاهدت من تظن أنه الأعلم والأجمل والأرقى، لا ننتظر منها ان تعترف حتى بالعباقرة من ابنائها، لأنهم ببساطة ابناؤها وليسوا ابناء الآخرين..
وهناك مثل شهير في روسيا يقول ان ستالين في عين أمه هو سوسو.. أي ذلك الطفل الذي أرضعته وحملته على صدرها وعلمته المشي والنطق بأولى الكلمات.
المطلوب منا إذن أن نكون دائماً هناك، في مكان آخر، وان يبرهن كل فرد على جدارته واستحقاقاته من خلال الآخرين في اي منفى يشاء..
لقد قيل مثلاً أن احمد زويل لو لم يهاجر الى أمريكا لبقي أستاذا في كلية العلوم يصارع شروط البقاء وأجرة البيت وأقساط المدارس وعلاج الوالدين، وهذا غير صحيح، فنجيب محفوظ نال جائزة نوبل وهو الذي لم يغادر القاهرة الا مرات قليلة وعاش في أحيائها الشعبية ومقاهيها وعلى أرصفتها.. لكن البيئة التي عاش فيها مكتفية بذاتها، وقد تكون مصر بالتحديد هي البلد الذي حاجة للمرء فيه كي يعرف من هو الاستاذ ومن هي السِّت، وهما علمان نادراً ما يذكران بالاسم..
لماذا نمتلىء بالريبة والشكوك ازاء كل ما صنع هنا ولم يصنع هناك؟ ونعتمد على الآخرين كي يصدروا لنا الأحكام بالقيمة على هذه القامة أو تلك، سواء تعلق الأمر بالثقافة أو السياسة وحتى الاقتصاد؟؟
هل هو انخفاض منسوب الثقة بالنفس؟ أم هي حالة مما يسمى في علم النفس الاستلاب والشعور بالدونية بدلاً من الندية |
انها مجرد أسئلة وهواجس تدور في ذهني منذ سنوات، فأحياناً يدعى بعضنا الى مهرجانات وفعاليات فكرية في أقصى الكوكب ولا يلتفت اليه أحد هنا.. لأن من يعيشون هنا منشغلون بمن يعيشون هناك.. وما أن تصبح هناك.. هنا حتى يفقد الطاووس ريشه |
اقترح على المسحورين بالهناك، ومن يحتاجون الى ترميم ثقتهم بأنفسهم لأنها مثقبة كالغربال أن يقرأوا ما كتبه فانون ومالك بن بني وجان جنيه وآخرون، فقد يهتدون الى عقب أخيل الذي تأتيهم منه السهام، وليس ذنباً لأي منا أن يكون في هذا المكان أو ذلك المكان لأن الجغرافيا ليست معياراً أخيراً يحتكم اليه..
ان أقسى ما يمكن للانسان أن يعانيه هو اضطراره دائماً لأن يكون هناك.. في أي منفى كي يحتفظ بوهجه ويظفر باعترافات قد تكون عصية على سواه..
أما آن لنا أن نعالج هذا الفالج النفسي ولو بالكي، كي نكتشف بأن أخانا لا ذنب له في أن يكون كذلك.. وأن ما صنع هناك هو الافضل حتى لو كان ابرة خياطة في الصين | | |
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور
|