لاريك فروم وهو من أشهر المشتغلين في التحليل النفسي كتاب بعنوان الهروب من الحرية، ويتضح من عنوانه ان الانسان الذي أدمن التبعية والانقياد والفرار من تحمل عبء المسؤولية هو انسان ينوء بحمل حريته، ولا يطيقها، تماماً كالسجين الذي ما ان يعطى حريته حتى يتورط بها ولا يدري ما الذي يفعله بها فيعود ثانية ليحوم حول السجن، ولا يوازي الهروب من الحرية الا الهروب من الهوية، خصوصاً لدى فئات من البشر أدمنت غياب الهوية أو التباسها، فهي عالقة على حدود هويات الآخرين، واحيانا يخدع هؤلاء انفسهم بأوهام من طراز الكوزموبوليتية أو العولمة أو ما يسمى الانسانوية الجديدة.

ورغم اوهام هؤلاء بأنهم بشر عابرون لكل الحدود الا انهم يجدون انفسهم محتجزين عند كل تلك الحدود، فهم ليسوا هنا وليسوا هناك، يحاولون ان يشبهوا الآخرين بقدر ما لا يشبهون انفسهم.

الهارب من الحرية يدرك في اعماقه بأنه غير مؤهل لادارة نفسه أو اي شيء يتعلق به، فهو مفعول به على الدوام ولا يطمع حتى الى ان يكون نائب فاعل.

اذكر للمثال فقط، ان اقطاعياً عربياً كان يقتني عدداً من القطاريز الذين انتسبوا اليه، وحين حاول ابناؤه المستنيرون اعتاق هؤلاء، فوجئوا بهم يعودون بعد شهر واحد لاستئناف ما كانوا عليه لانهم ارتطموا بالحرية، ولم يستطيعوا التحديق في عينيها، وهذا ما يفسره علماء النفس بقولهم ان ادمان الخضوع يؤدي الى حالة من الماسوشية والتلذذ بالالم.

وقد يكون الهارب الى الهوية هو توأم الهارب منها، لأن هذا الهارب اليها يستقيل من انسانيته ومن كونه فرداً في كتلة بشرية، لهذا فهو حتماً سوف يصاب بالاختناق من هذه الهوية، وهذا ما وصفه بتحليل عميق أمين معلوف اللبناني الفرنسي الذي يكتب بالفرنسية في كتابه الشهير الهويات القاتلة، والذي يذكرنا بكتاب مماثل بعنوان ارهاب الهوية للايراني داريوش

لم يكن سؤال الهوية ذات يوم في التاريخ المعاصر كما هو الآن، انه مشحون في هذه الفترة ومنذ انتهاء الحرب الباردة بأشواق طالما كانت مكبوتة، وكانت الجمهوريات الاسلامية التي عاشت زمناً ضمن نطاق الاتحاد السوفيتي المجال الحيوي الاوضح لهاجس الهوية والجذور.

ان مفهوم الهوية أوسع واكثر فضاء وأوسع أفقاً مما يظن البعض، لان الهوية ليس شرنقة، وبالتالي ليست انكفاء على الذات، فهي في حوار مستمر مع هويات اخرى في هذا الكوكب وللعربي ما قبل سايكس - بيكو وتفريغ الهويات الفرعية هوية تاريخية وثقافية ووجودية هي الهوية الام.. وانعاش هذه الهوية الجريحة والمريضة لاسباب نعرفها جميعاً ليس امراً مستحيلاً، لأن كيمياء عناصرها وبوتقتها التاريخية والحضارية لم تنقرض.

ان من يواصلون الهروب من سؤال الهوية سيجدون انفسهم في كل مكان.. ربما خارج التاريخ وليس خارج الجغرافيا فقط، هذا مع العلم ان تبسيط الهوية وتسطيحها بحيث تكون فولكلوراً فقط يجردها من حمولتها القومية والحضارية والتاريخية.. فهل العربي الآن هارب من حريته أم هارب اليها؟


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور