هؤلاء ليسوا من العباقرة الاستثنائيين الذين لا غنى لهم، وليسوا من أصحاب الصلاحية الابدية، وقد يكون امتيازهم الوحيد ان كان بالفعل امتيازاً، هو القدرة على سرعة التأقلم، لأن هاجسهم المزمن والوحيد هو البقاء على قيد الحياة السياسية أو الاعلامية، وما يكتبونه هو مقالة متعددة الازواج، اذا كان من حقنا تحوير عبارة المفكر المغربي عبدالفتاح كليطو عن قصيدة المديح المتعددة الازواج ايضا.
وثمة فيلم سينمائي شهير عن هذه السلالة التي تريد جمع الربيع والخرف والصيف والشتاء في سلة واحدة، وان تكون مع اليمين حتى أقصاه ومع اليسار حتى ذروته، ما دام هذا التأقلم السريع يضمن لها البقاء طافية على السطح، وهم أشبه بتلك الزمرة التي وردت اخبارها في حكاية مأمورية الزير، فذات يوم ذهب حاكم الى منطقة منسية في بلاده ووجد الناس يموتون ويجف لديهم الزرع والضرع بسبب الظمأ وشحة الماء، فأمر ببناء زير عملاق كي ينقل اليه الماء من منابعه، واكتشف بعد سنوات ان هناك لجاناً فرّخت لجاناً وان أموالاً باهظة أنفقت على بيروقراطية الزير.. وحين ذهب لزيارة الناس الذين يعانون من الظمأ، وجد ان الجفاف قد قضم ما تبقى، وان ما من زير على الاطلاق في تلك المنطقة المنكوبة.
مَن خدع مَن في مأمورية الزير هذه؟ وكيف استطاعت الزمرة ذاتها التي تتناسل في كل العصور ان تخدع الحاكم والمحكومين حتى الموت من فرط الظمأ؟ ما من رجال أو نساء لكل العصور قدر تعلق الامر بالسياسة وشجون الحياة بكل أبعادها الثقافية والاقتصادية، وما ندفع ثمنه المؤجل بعد اضافة الربا التاريخي نحن العرب في هذه الآونة هو ما انجزه الذين يعتقدون بأنهم صالحون لكل العصور، وكأنهم اخترعوا اكسير البقاء الى القيامة.
هؤلاء خدعوا سادتهم وناسهم وأقرب الناس اليهم كي يستفردوا بالغنيمة والتي هي في نهاية المطاف وطن مسلوخ الجلد وممصوص النخاع ومسجى على طاولة بين عدة سكاكين
.
اننا نشفق على من يصدق هؤلاء، ويراهن على انهم لن يخلعوا صاجهم كالسترة أو المعطف عندما تأزف اللحظة الحرجة.
الآن.. نريد كعرب، اسقاط النفاق أولاً واسقاط الكذب ثانياً واسقاط من يحترفون تزيين الاخطاء واسماع أولي الامر ما يطيب لهم سماعه.
ما حدث في مصر بالتحديد كان يمكن تداركه لولا حالة العمى السياسي التي حالت دون رؤية ما آل اليه الحال.
لقد كان واحد بالمئة من الاصلاحات يكفي، لكن بعد أن تفاقمت اوبئة الفساد وأكل واحد بالمئة من الناس لحوم تسعة وتسعين بالمئة، كان لا بد للبركان ان يثور، فالقط عندما يحاصر يتحول الى نمر أو فهد ويستدعي احتياط السلالة السّنورية كلها كي يدافع عن نفسه.
الكرة الآن في مرمى النخب، فهي الدليل الذي لا يكذب أهله ان كانت صادقة ومنسجمة مع نفسها، وهي الدليل الى الهاوية ان كذبت ولن تسلم من الطوفان.
لقد قال الغراب الجائع عند الغروب آه على ذبابة، لأنه فوّت آلاف الفرص، لكنه لم يجد حتى هذه الذبابة ومات جوعاً.
اللحظة الآن لا تقبل التمويه أو الالتباس والواقع بكل تجاعيده وأسنانه المنخورة لا يقبل أية جراحات تجميل، وما يجري يخصنا جميعاً، بشراً وشجراً وحجراً.
فهل آن الأوان للاقلاع عن ثقافة الكذب وفقه النفاق واصرار البعض على أنهم رجال لكل العصور | .
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور
|