ما من عالم او فيلسوف او شاعر او مؤرخ تجاسر حتى الان على تعريف الوطن، فهو ليس حدودا اقليمية فقط او نشيدا وطنيا وعلما يرفرف وهو ليس مجرد تاريخ او حتى جغرافيا لانه يولد من زواجهما بحيث يكون للدائرتين معا مركز واحد ومحيط واحد..

الشاعر العربي اختار الوطن عندما خير بينه وبين الجنة، وحفيده اضاف ان الممات الذي يغيظ العدا خير من حياة لا تسر الصديق، لهذا حمل روحه على راحته واستشهد في معركة الشجرة.

الطيور والزواحف وحتى الحشرات تدافع عن الاعشاش والجحور حتى الموت فهل تعلمتْ من البشر ذلك ام ان البشر قد تتلمذوا عليها ؟

ان تعريف الوطن يقع خارج اللغة، فهو احيانا مجرد قشعريرة تسري في الجسد وتعبره الى الوجدان والذاكرة، وقد تنتج هذه القشعريرة عن موقف إنساني يبدو عابرا لمن يقيسون منسوب الدم بميزان الماء او يزنون الماس بميزان البصل.

استغاثة صامتة ترشح من تجاعيد عجوز محاصرة قد تنتج هذه القشعريرة، او دمعة ساخنة علقت بجفون صبية استفرد بها عدو نذل عند حاجز.

والاوطان لا تقاس بالأميال المربعة او حتى المسدسة، فقد يكون الوطن مترا او بمساحة قارة.. لكنه الكبسولة التي تحتشد فيها مضادات الذل والارتهان، وكم يستحق الاغريق القدماء الاحترام لانهم نقشوا على رخام اضرحة محاربيهم عبارة خالدة.. هي لا يدافع عن الوطن غير الاحرار، فالعبيد لا وطن لهم غير رغيف ومأوى، لهذا لا يعرفون الفارق بين المنفى والملكوت وبين القيد الحديدي والاسورة

ان عدد من قضوا في هذا العالم وعبر عدة ألفيات دفاعا عن استقلال بلدانهم هو اضعاف عدد سكان هذا الكوكب من الاحياء.

لكن اين هو الحاسوب الامين وليس الذكي فقط الذي يقدم عنهم احصائية دقيقة؟؟

ولولا هؤلاء.. لما كانت تضاريس العالم على ما هي عليه الان، ولما رفع غير علم او علمين فقط لامبراطورية او اثنتين، فهل يدرك الاحياء الذين ينعمون باوطانهم كم دفع الاسلاف ثمنا لهذا النعيم؟

واعود ثانية وللمرة الالف الى تلك القشعريرة التي تسري في الجسد عابرة اللحم والعظام والنخاع الى الروح، فلا موعد لها، وما من انبوب صناعي لاستيلادها، انها لحظة الاختبار الاعسر في التاريخ كله لما انتهى اليه الانسان من وعي ليكنونته وسياقه القومي وبالتالي هويته التي هي خلاصة رحيق الرحيق

اما ثقافة الخصخصة التاريخية والوجودية التي اوهمت ضحاياها بان الوطن مجرد بيت او وظيفة او رقم في سجل.. فقد آن لها ان تخرم ما تبقى من اسمال وخرق بالية واوراق صفراء في حقيبها وترحل.

لقد سال على حدود العرب منذ كانوا من لعاب غزاتهم ما يكفي لاغراق قارتين وليس اطلانطس فقط.

في مراسلاته مع صديقه الالماني اللدود كتب البير كامو وهو المعروف بفلسفته العدمية والعبث: انني لا اناقش بعض الامور لكوني فرنسيا، وكانت فرنسا في تلك الايام ترزخ تحت الاحتلال الالماني.

فمن هو العربي الذي يقول ذلك او بعضه رغم ان الوطن العربي محتل وشبه محتل ومدرج على قائمة الاحتلال؟


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور