كتابان لهما أهمية استثنائية ضمن عدة كتب صدرت في السياق ذاته قبل هذا الحراك العربي بأعوام، الاول عن الدولة الرخوة للدكتور جلال امين والثاني عن الدولة المستباحة لمحمود حيدر، وكان امين قد تنبه مبكراً الى ان الدولة عندما ترتخي مفاصلها وتكون عرضة للتفكيك تتيح لكل ما تأجل من المكبوتات في باطنها ان يندلع دفعة واحدة، واختار د. أمين نموذجين عربيين لهذا النمط من الدولة هما مصر ولبنان، رغم التباين في اسباب الرخاوة بينهما، والارجح ان الدول تبدأ بالارتخاء والتحلل في خريفها المزدوج اقتصاديا وسياسياً وفي الحالتين يكون الفساد قد بلغ ذروته وتمأسس ولم يعد مجرد ندوب متباعدة او في حدود افراد.
والكتاب الثاني لمحمود حيدر، وقدم له بعبارة من الامام علي بالغة الدلالة هي لكل دولة برهة، وهو ما عبر عنه الشاعر العربي عندما قال.. من سرّه زمن ساءته أزمان، فما يراه صاحب الدولة المستباحة هو باتصار ان الدولة الحديثة فقدت ما كان يسمى السيادة بعد الحرب الباردة، وجاء زلزال الحادي عشر من ايلول ليستبيح ما تبقى من هذه السيادة او مما يسميه الدولة السيدة
.
ومن أهم اطروحات الدولة المستباحة ما كتب وتم السجال حوله في الولايات المتحدة عن أفول الدولة القومية تحت تأثير وسطوة قوى السوق العالمية، فدولة ما بعد الحداثة هي من طراز آخر، لا تليق به المعايير التقليدية للتاريخ الكلاسيكي، والمستباح في زمن العولمة وهي المصطلح المرادف والخجول للامركة هو الأمم المتحدة ايضا، فبعد يوم واحد من الحرب على العراق كتب رئيس مجلس السياسة الدفاعية في البنتاغون ريتشارد بيرل مقالا يحمد الله فيه على وفاة الامم المتحدة، وسرعان ما سيقت الامم كالقطيع نحو قرار صادر من الراعي الأوحد في واشنطن. ويبدو ان كل المصطلحات المتعلقة بمرحلة ما بعد الحداثة تعني شيئاً واحداً في نهاية المطاف، فحروب الاستباق التي سميت حروب ما بعد الحداثة هي حروب استباحية، لانها ابادية واستخدمت فيها اسلحة محرمة دوليا ونتجت عنها نظم جديدة فاقدة للسيادة وينتهي دورها في أحسن الاحوال عند تصريف الاعمال.
لقد كان واضحاً وبجلاء لمن يتأمل الواقع العربي قبل عام 2011 ان ثمة أعاصير قادمة وقد تصحبها صواعق لا تنفع معها المصدات، ولم يكن توقع ما جرى وما سوف يجري بحاجة الى زرقاء يمامة، لان رائحة العطن والاستنقاع كانت تفوح من المفاصل الصدئة للدول الرخوة، مثلما يرشح الاستجداء والبحث عن منقذ من الدول المستباحة، لكن من استغرقتهم شجون البورصات وملاعب الرياضة التي تغص بمئات الآلاف والحروب اليومية الصغرى كانوا بمنأى عن كل هذا، فأصابتهم الصدمة مما حدث وكأنه قضاء وقدر أو كارثة من صناعة التاريخ نيابة عن الطبيعة.
من تابع شجون الاتحاد السوفيتي الغارب قبل غروبه كان يدرك ان تفكيكه قادم لا محالة، وان ثمة هويات وثقافات وقوميات قد بدأت تطل برأسها من القمقم، ويخطىء من يتصور ان غورباتشوف والبيروسترويكا هي اسباب تفكك ذلك الاتحاد الامبراطوري، فالاسباب أقدم وأبعد من ذلك، وثمة دول ونظم تسقط قبل اعلان موعد سقوطها سواء بسبب تفاقم الرخاوة أو لفرط الاستباحة بحيث تتحول الى فريسة وغنائم وهي آخر من يعلم.
ان من لا يقرأون التاريخ عليهم ان يعيدوا اخطاءه مضاعفة كما قال سانتيانا ومن يجهلون القوانين سواء تعلقت بالسياسة والتاريخ أو القضاء عليهم ان يقبلوا بما يحكم به عليهم حتى لو كان الاعدام | .
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور
|