لمصر شعاب لا تنفذ الى عمقها كاميرات السواح، ولا تحيط بها شاشات نأت عن جاذبية الواقع، فهي تكظم الغيظ زمناً وتقبض على الجمر اذا لزم الأمر، لهذا فهي غالباً ما تفاجىء من يئسوا منها وغسلوا أيديهم منها، لكنن القليل من الغضب لا يكفي كي يغلي المرجل الشاسع الذي تحتشد فيه الملايين خصوصاً حين أوشكت على التسعين.
ولا أدعي أنني الأدرى بتلك الشعاب، لكن من عاش في طياتها وبين ظهرانيها كما لو كان قد ولد فيها ليس كمن يراها بعيني سائح، حيث لا يرى أبعد من قشرة السطح وكل ما هو أفقي.
توقع المراقبون ان الانتخابات الاولى التي بدأت البارحة في القاهرة وشقيقاتها سوف تتحول الى معارك ويسيل فيها من الدم أكثر مما سال أمام ماسبيرو وفي التحرير وشارع محمد محمود، لكن الناس رغم هذه التوقعات أقبلوا على الصناديق. فهم يعلقون الكثير من الأمل على من سوف يظفرون بأصوات الناس. وقد يبدو كل هذا الارتباك وما أصاب المجتمع والدولة معاً من خلخلة كما لو أنه وداع حزين لمصر الدولة، لكن هناك بعداً آخر لهذا المشهد الملغوم، فالفقر لم يعد قدراً يستسلم الناس لتفاقمه، وكذلك الأميّة التي عصفت ببلاد علمت الناس ومعظم أبناء جيلنا التعليم المؤمم وقبل أن يتعولم ويصبح باهظ التكلفة بحيث تتحول أبواب دور العلم الى نزاعات.
المياه العميقة تجري ببطء، هذا هو الدرس الأول لحضارات الماء وما جرى تفكيكه ليس عجلة أو عربة، بل دولة تكونت منذ عدة ألفيات، وسقطت ونهضت، وغابت شمسها واشرقت، وتعلمت وعملت، لهذا يصعب على العارف ولو بالقليل من شعابها أن يصدق بأنها ليست قادمة من المستقبل، ومن ييأسون من تلك البلاد هم على الارجح من لم يقرأوا الجبرتي وابن اياس وسائر العائلة التي شهدت على أزمنة تجاوز فيها الشقاء حدود الخيال، وأكل الناس لحم بعضهم أحياء وموتى.
لقد عانت مصر من محاولات الحذف من تضاريس العرب السياسية وهناك من حاولوا بمختلف السبل الاستقالة وبلا عودة من العالم العربي، وأنا اعرف منهم أفراداً وجماعات وتحاورت لأعوام طويلة مع أطروحاتهم المضادة لجريان النيل شرقاً، ولكل ما مهرت به الذاكرة مدرسة بحر البقر والسويس وسيناء وبور سعيد.
تتراجع تلك الأطروحات المضادة للتاريخ أمام ما سماه د. جمال حمدان عالِم الجيوبوليتك الأشهر والذي مات مختنقاً في شقته التي يعيش فيها وحيداً "قدر مصر" .. فالجغرافيا كما يقول علماؤها الذين يرون ما هو أبعد من خطوط الطول والعرض في تضاريسها هي تاريخ متخثر وأصابه التصلب فتحول من تاريخ سائل الى جغرافيا متماسكة.
ما يجري في مصر وتحت أقدام ملايينها أبعد من ثنائية التفاؤل والتشاؤم، لأنه لا يقرأ مكتفياً بنفسه ومعزولاً عن سياق تاريخي متعرج، عرف الصعود كما خبر الهبوط ومصر التي قيل عنها بأنها من أغنى وأخصب البلدان لأنها تتعرض للنهب منذ الفراعنة ولم تعلن افلاسها، وجدت في فترات منها ما تباعد ومنها ما تعاقب من أعلنوا افلاسها سياسياً، لأنهم عزلوها عن الدورة الدموية والقومية، فالبلاد التي طالما سقت الظامئين باتت في مرحلة ما مهددة بالعطش والبلاد التي علمت ملايين العرب في جامعاتها في الحقبة الناصرية بدت كما لو انها تتعرض لاجتياح الأميّة والتجهيل..
لهذا على من لا يعرفونها أن يتوقعوا على الدوام مفاجآتها
|
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور
|