التقاليد المتوارثة عبر الاجيال تخضع شأن سواها الى عمليات من الانتقاء والفرز، فهي في الامثال الشعبية تنحو باتجاه الاقدام والايثار وكل ما هو ايجابي وفاعل في ازمنة القوة والازدهار، لكنها تنحو باتجاه الجبن والاثرة والنفاق والانسحاب في ازمنة الضعف والتقهقر.

وهناك دراسات ذات قيمة لعلماء اجتماع في هذا السياق، فلا نظن مثلا ان من قالوا امشِ بمحاذاة الجدار او ان الجدران كلها آذان كانوا ينعمون بالاقدام والحرية.

وما تبقى من تقاليدنا العربية الآن في ذروة هذا الانحدار والانحسار هو طقوس عزاءات وأعراس وجاهات واعياد، ومن لا يخضع لهذه الطقوس يعد اجتماعياً من الابناء العاقين وقد يعاقب بالنبذ.

لكن اين هي تلك التقاليد والاعراف المتعلقة بقول كلمة حق في حضرة سلطان جائر، او ذبح الحصان رغم انه ينافس ابناء العائلة بالنسبة للفارس العربي للضيف اذا لم يجد المضيف لديه ما يقدمه.

وأين هي تلك البسالة في الدفاع عن الاوطان ببنادق بدائية وخراطيش صيد وهراوات، فالاجداد حققوا استقلالا بتلك الاسلحة البدائية وصانوا كرامتهم الوطنية وهم لا يملكون من الزاد الا أقله.. بعكس الاحفاد الذين دفعوا المليارات ثمن اسلحة صدئت في المخازن أو جربت في ذوي القربى؟

نحن مع التقاليد والاعراف شرط ألا تجري غربلتها بحيث لا يبقى في الغربال غير الحصى والزؤان، ومعها اذا كانت مشحونة بثقافة وطنية وكبرياء قومي، لكننا نضطر الى السخرية منها ومقاطعتها اذا توقفت عند اغراض وطقوس اجتماعية، لأنها عندئذ تصبح داجنة وبلا اية مفاعيل، والارجح ان ما حرص عليه عرب الزمن الاخير من التقاليد هو ذلك الذي لا يتجاوز نطاق مناسبات موسمية عابرة، لان ما قيل عن ان لكل زمان دولة ورجال حذف منه الأقنوم الثالث لكل زمن ايضا تقاليده، فالضعفاء يهجرون كل الامثال والمواعظ والعادات التي تختبر منسوب ارادتهم، ولا يمسكون من الاسد غير ذيله اذا استطاعوا ولسنا بانتظار من يعلمنا ان التقاليد هي خيط اساسي من خيوط الهوية، وان الحفاظ على ما هو نبيل وفاعل منها هو بمثابة الدفاع عن خصوصية وتكوين اجتماعي، لكن ان تنتهي هذه التقاليد الى خيمة عزاء او صالة افراح فقط، فذلك معناه الوحيد انها بالفعل تعرضت للتدجين شأن الامثال الشعبية التي تعيش معها وفيها.

وما يوازي هذا التشبث بالتقاليد المنتقاة والتي لا صلة لها بالارادة وتحقيق الذات هو التدين الشكلي، الذي يؤدي بالضرورة الى الفرار من الجوهر والمضمون الى الطقوس فقط، ولا يمكن ان يندرج في قائمة المتدينين من يقيم الدنيا لأنه رأى عن بعد شخصاً مفطراً في رمضان وهو لا يعرف سبب افطاره ثم يمتدح الطغيان ويصفق للظلم ويخترع الف مبرر ومبرر لخطايا من يعلفونه.

إن هناك مفاهيم لا تقبل التجزئة أو التحول إلى كسور عشرية، فما من ربع شرف أو نصف صدق أو ثلث وطنية، والتقاليد منظمة موروثة ضمن سياقات شاملة، بحيث لا يعد وفياً لها من يحرص على الطقوس الاجتماعية فقط، لكنه يبحث عن أقرب جُحر للاختباء فيه اذا أزفت لحظة مجابهة او تطلب الكرم ذبح عصفور لم يتعلم الطيران بعد وليس حصاناً أو فرساً كفرس الطائي..

سئمنا من هذه الكسور العشرية والنسب المئوية لقيم لا تقبل الانصاف والاثلاث والارباع


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور