ما تمخض عنه فريدمان بعد زيارة للقاهرة وعبر احدى فضائياتها هو أن مصر بانتظار نلسون مانديلا كي تصل الى شاطىء الأمان، والأُمنية بحد ذاتها لا غبار عليها، لكن مانديلا ليس وصفة سياسية تباع في الصيدليات خصوصاً اذا كانت من طراز ما يسميه جاك دريدا صيدلية أفلاطون, ولا ندري كيف سيتشكل هذا المانديلا الجديد بطبعة مصرية؟ من الاسلاميين بمختلف قياداتهم أم من الليبراليين أم من الناصريين؟ أو لعله مزيج من هؤلاء جميعاً بعد انصهارهم في بوتقة كحذف كل صفاتهم باستثناء صفة واحدة فقط هي مصريتهم؟
ولو كان هناك مانديلات بعدد دول العالم الثالث المنكوب بنرجسية الجنرالات وشغف الاحزاب بالتحول الى قبائل جديدة لانتهى الامر منذ زمن بعيد، لكن هناك بلداناً مرت بظروف لا تقل تعقيداً وظلماً عن جنوب افريقيا انتظرت مانديلا المولود من رحمها لكنه لم يولد بعد، لهذا اصبحت كمن ينتظر غودو كما في مسرحية صاموئيل بيكت غودو الذي يجيء ولا يجيء والذي يضجر المتفرجون وهم ينتظرون قدرته عبر فصول المسرحية العبثية لكنه لا يصل.
المشهد أكثر تعقيداً من هذا كما يقول صاحب كتاب الارض المسطحة، التي لم يعد فيها شيء قابل للاختفاء، كما لو انه يذكرنا بالعطسة الآسيوية أو رفة جناح الفراشة في زمن العولمة التي لم تكن تعني سوى قناع للأمركة وفق المصطلح الذي نحته روزفلت عندما اعلن بأن قدر بلاده هو أمركة هذا الكوكب.
والارجح ان السيد فريدمان ليس ذا دراية كافية بشعاب مصر، وما سوف يفرزه حراكها بعد عام من الكرّ والفَرّ، والبحث عن الطرف الثالث الذي تنسب اليه الجرائم والفتن الطائفية واحراق الكتب والوعيد باحراق القاهرة كلها
نعرف ان فريدمان كصحفي مُدلل في عواصم العرب التقى رؤساء وقادة في مختلف البلدان ومنهم مبارك الذي يقول بأنه التقاه عدة مرات واجرى معه حوارا بين صحفيين خلال وجوده على كرسي الرئاسة، حتى المبادرة العربية الشهيرة كان لفريدمان حصة منها عندما روى حكايتها.
ما لا يعرفه بعض أخصائيو العولمة هو ان هذه الشعوب ليست فئراناً بيضاء تصلح لتجريب الفيروسات والمختبرات فقط، بعد المجازفة بحياتها لصالح مخلوقات أرقى. فالغرب يتعامل معنا كعرب بأسلوب سلة العملات، لهذا يتدنى سعر دمنا ونقبل بمقايضة ألف رجل بصبي، أو نصف وطن بلقب وسجادة حمراء.
ومن الطريف ان فريدمان تحدث عن زيارة أوباما لمصر قبل ثورتها عندما القى محاضرته الشهيرة المسماة خطاباً في جامعة القاهرة، فيقول ان أوباما بأصله الافريقي وسمرة بشرته وملامحه أحس بالقرب مع المصريين الذين شاهدهم في الجامعة. وقد خطر ببالي ان أوجه سؤالاً الى فريدمان عن الطريقة التي كان أوباما سيفكر بها لو زار دمشق أو بيروت لالقاء محاضرات في جامعاتها، حيث الوجوه ليست سمراء بما يكفي والاصول ليست افريقية |
ان منطق الاستشراق ما يزال سائداً في الميديا الغربية، وهناك احساس بالتعالي والوصاية الانتدابية يقبع داخل عقول هؤلاء، لكنهم لا يعرفون أن بيننا رغم تخلفنا وفقرنا وارتهاننا أناساً قرأوا ويقرأون يومياً ما بين سطورهم، وقد أعلنوا الفطام عن حليبهم وحبرهم معاً.
لقد انتظر عرب الزمان الأخير صلاح الدين قروناً كي يحررهم، لكنه لم يصل بعد، ومنهم من انتظروا مانديلا الذي يولد من صلبهم ولم يأت أيضاً.
كفى شخصنة في زمن بلغت الشعوب فيه رشدها وكفى وصفات ممنوعة من الصرف | |
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور
|