منذ اكثر من نصف قرن والعرب يحاولون استنساخ تجارب سياسية واقتصادية، فقد جربوا القطاع العام وما سمي ستينات القرن الماضي التسيير الذاتي، وحين حاولوا تقريب الاشتراكية فقدوا المشيتين معا، وبخلاف رياضيات التاريخ كلها وحواسيب هذا العصر الذكي منها والغبي تحول فائض ثروتهم الى فائض تخلف، وفائض التسليح الى هزائم، واخيراً جربت هذه الاسلحة التي صدأت في المستودعات في حروب اهلية وشبه اهلية.

اخيراً بدأت تجربة مهاتير الماليزية تجتذبهم، لكن من خلال حوارات نظرية غير قابلة للترجمة الميدانية، فالرجل الذي اوشك ان يتحول الى اسطورة معاصرة في الاقتصاد كانت نسبة البطالة في بلاده اربعين بالمئة، وهي الآن لمن يصدق أو لا يصدق صفر بالمائة، فهناك اكثر من مليوني وافد يعملون في بلاده اضافة الى أهل تلك العباد.

ان تجارب العالم المدفوع ثمنها من العرق والدم والسهر ليست نعاجاً قابلة للاستنساخ على هذا النحو الكاريكاتوري، وحين جرب القطاع العام أفقر البلاد والعباد وتعرض لنقد رأسمالي شديد، وحين جرب ما سمي الانفتاح تضاعفت نسبة الفقر والعشوائيات، اما الخصخصة بكل محاصيلها فنتائجها لا تحتاج الى أي تعليق.

ان لكل أمة وبلاد خصائصها البيئية والثقافية وتربوياتها الاجتماعية، اضافة الى ما تشكل من سايكولوجياها بتأثير تلك العوامل، مما يجعل الاستنساخ مقدمات منطقية لولادة المسوخ، فالأهم من كل المطارحات والسجالات واستعراض المعرفة النظرية هو امتحان تلك الثرثرة واقعياً ما دامت الاشياء تقاس بنتائجها على الاقل في مجال الاقتصاد الذي لا تعيش في تربته الشعارات.

ومن يرصد الحراك الاصلاحي للحد من اخطبوط الفساد في عالمنا العربي يجد انه قد تحول الى نظام ومؤسسة وثقافة، وهذه السياقات الثلاثة مضادة للعافية الوطنية، ولكثرة ما ينشر عن الفساد بمعزل عن الفاسدين شأن كل اطروحاتنا التجريدية، يجزم بأن الحامي في هذا العالم العربي هو الحرامي وان الحذر يؤتى من مأمنه، لكنه يُلدغ من الجُحر ذاته الف مرة، ليس فقط لضعف الايمان بل لقلة الخبرة والاركان الى فقهاء سياسة واقتصاد هم في الحقيقة مجرد هواة.. كي لا نقول شيئا آخر.

من يقرأ ما كتبه مهاتير عن تجربته وما اجري معه من حوارات حولها لا بد أن يشعر بشيء من الخجل، لأن الوطن العربي الذي يعيش فيه ثلث مليار من رعايا لم يتحولوا بعد الى مواطنين كان مؤهلاً لافراز مهاتيرات وليس واحداً.

لكن التعامل مع الاوطان بمنطق الغنائم او السفن الغارقة لا يمكن ان ينتهي الى افراز عقول وكفاءات قادرة على انتشال هذا الثلث مليار من الغرق.

وقد قلنا مراراً في هذا المقام وغيره ايضا إن الوحدة العربية تحققت ونحن آخر من يعلم، فهي تحققت في التنافس على أدنى المراتب الأكاديمية في العالم وعلى أدنى متوسط دخل قومي في كوكبنا، وكذلك على أقل نسبة أكسجين له علاقة بالحريات والهواء الطلق...

البطالة في بلد آسيوي اصبحت نسبتها صفراً بالمئة، واذا استمرت النظم العربية في اساليب تعاملها مع الواقع والعالم على ما هي عليه، فإن المتوالية ستمضي باضطراط بحيث تصبح نسبة البطالات مئة بالمائة خصوصاً اذا توسعنا في تعريف البطالة لتشمل الاستنقاع الاجتماعي والتخلف العلمي


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور