لولا الانتشار الوبائي للأمية بمستوياتها الثلاثية في عالمنا العربي لما كان لدينا هذا العدد من مدعي الفلسفة والفكر والفن.

ولو قارنا بين عدد الاسرة في المستشفيات قياسا لعدد الناس، وبين عدد من يكتبون نسبة لمن يقرأون لرأينا ان النسبتين تتنافسان على رقم يستحق ان توضع قبله وبعده الف علامة استفهام وتعجب

ويبدو ان الرهان على الخجل الانساني واللياقة النفسية لم يعد كافيا، اذ لا بد من كوابح لكنها ليست بوليسية او من قانون العقوبات، بل من المجتمع المثقف ذاته الذي يحترم وعيه ولا يسمح لأحد ان يستخف به.

والمقولة المعروفة عن مصائب البعض التي تتحول الى فوائد لدى اخرين، لها تجليات حتى في هذا السياق المعرفي. فمن يعتقد انه اعور في بلد العميان يزعم بانه ازرق اليمامة وليس زرقاءها فقط، ولا يخشى من العقاب او النقد، وتنطبق عليه نظرية شهيرة لسيمون بوفوار هي ان الاحمق ايضا له من يعجبون به.. انهم الاكثر حماقة منه

اذكر ان اهل قرية فلسطينة سخروا في خمسينيات القرن الماضي من شاب سافر ليدرس خارج البلاد، وعندما عاد بعد تسعة شهور فقط اعوج لسانه وتظاهر بانه لا يفهم معنى بعض الكلمات حتى تلك التي تقولها امه. ثم ذهبت العبارة الساخرة لاهل تلك القرية مثلا، فكل ما حصل عليه هذا الفتى هو انه اصبح يسمى اللبن يوغورت

وذات يوم في زمن التتريك ومطاردة الابجدية واهلها، وشى احد المخبرين الى الوالي عن مدرس عربي للكيمياء، كتب على اللوح رمز الماء وهو H2O. وقال انه يقصد بان حميد الثاني صفر

تطورت العلوم واساليب التعليم وتبدلت احوال لكن الوشاة لم ينقرضوا، ومن لا يفسر رمز الماء سياسيا يجد شيئا اخر يفسره ويؤوله على هواه، لكن لحسن الحظ لم يعد من تكتب اليهم التقارير بتلك السذاجة، ومنهم من حفظ عن ظهر قلب تلك الحكاية التي تعلمناها في صبانا بعنوان عدو عاقل خير من صديق جاهل. لان الصديق الجاهل وهو الدب في الحكاية رمى حجرا ثقيلا على رأس صاحبه النائم لينقذه من ذبابة تحوم على وجهه. ففرت الذبابة ونجت، لكن النائم مات بعد ان شج الحجر رأسه

في مجتمعات اقل أمية واكثر وعيا لا يتاح للاعور ان يدعي بأنه ازرق اليمامة، ولن يكون الاقل جهلا هو الاعلم بل العالم

لذلك هناك من لا يتمنون ان تتحرر هذه المجتمعات من وباء الامية بل الاميات الثلاث. كي يبيعوا عسلهم المغشوش من نحل معلوف بالسكر المطحون وكي يبقى القرد في عين امه غزالا

ذات يوم ستشب هذه المجتمعات المغلوبة على امرها، والتي بددت اعمارا في البحث عن رغيف ومأوى، عن طوق الامية، وتعاقب باثر رجعي من استخفوا بها واستغفلوها. فالتاريخ لن ينتهي الليلة او حتى بعد الف عام، لهذا ما من جريمة تكتمل، ولا بد من شهود يفتضحونها ويعلنون نقصانها حتى بعد ان يصبح المجرمون رميما


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور