كان العرب قبل الإسلام أمة كادت أن تكون خاملة منعزلة، فصلها عن العالم المتحضر المعمور بحار من جوانب ثلاث، وصحراء من الجانب الرابع، وكانت من الانحطاط والانقسام بمكان، لم يخطر ببالها في يوم من الأيام أن تكون لها الريادة والسيادة والحضارة وأن تنتصر على الدول المجاورة لها ولو حتى في المنام.
هذا وكانت الريادة والسيادة آنذاك لدولتي فارس والروم، وقد أحاطتا بشبه الجزيرة العربية إحاطة السوار بالمعصم.
وإنما زهد الفرس والروم في فتح هذه الجزيرة لقلة خيراتها ومواردها من جانب ووعورتها من جانب آخر وقد يكلفهم فتح هذه الجزيرة الكثير من الرجال والأموال فاكتفوا بمراقبتهم من بعيد.
هكذا كانت هذه الأمة التي ما كانت لتمثل دوراً بارزاً في تاريخ العالم عن قريب، كانت أمة بدوية مرهوبة.. كما قال إمبراطور الفرس لسفراء المسلمين "إني لا أعلم أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقدموا عليهم، فإن كان عدوكم كثر فلا يضرنكم منا وإن كان الجهد دهاكم فرضنا لكم قوتكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم".. فقال المغيرة بن شعبة: "أيها الملك إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالاً منا. وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع كنا نأكل الخنافس والعقارب والحيات، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، وأن يبغى بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهى حية، كراهية أن تأكل معه، وكانت حالنا قبل اليوم ما ذكرت لك فبعث الله إلينا رجلاً ..………"
وقد ذكر الوليد بن مسلم: أن ماهان طلب خالدا ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعا في مصلحة، فقال ماهان: "إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها".
هذه هي قيمة ومنزلة العرب عند الروم.
ولكن سرعان ما تغيرت الأحوال وانقلبت الحقائق وبطلت التجارب السابقة.. إذ خرج هؤلاء الأعراب من صحرائهم يفتحون البلاد والأمصار، خرجوا ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جَـور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
تدفق هذا السيل من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحدى عشرة سنة من الهجرة، واثنتين وثلاثين وستمائة لميلاد المسيح، فغلب كل شيء اعترضه في الطريق.
ولم تكن جيوش فارس والروم ومصر وغيرها المعدودة بمئات الآلاف الشائكة السلاح الشديدة البطش التي كانت الأرض تزلزل بها زلزالاً. لم تكن هذه الجنود إلا حشائش في هذا التيار الجارف فلم تُعِق سيره، ولم تغير مجراه حتى فاض في مروج الشام وفلسطين وسهول العراق وفارس وربوع مصر والمغرب والأقصى.
جرف هذا التيار المدنيات العتيقة، والحكومات المنظمة والأمم العريقة في المجد والسلطان فأصبحت خبراً بعد حين، وأثراً بعد عين.
وخرج العرب فاحتكوا بالفرس والروم فغزوهم في عقر دارهم فمزقوا جموعهم، ونالوا عروشهم، وفتحوا كنوزهم، واقتسموا أموالهم وتراثهم، ومزقوا رداء فخرهم وعظمتهم وكسروا شوكتهم وهلك كسرى فلا كسرى بعده، وهلك قيصر فلا قيصر بعده.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}..الأعراف 137
خرج هؤلاء العرب بثياب مرقعة ونعال مخصوفة يتقلدون سيوفاً بالية الأجنان، رثة المحامل على خيل بعضها عارية الظهور كانوا بعيدين كل البعد عن المدنية، فما لبثوا أن ملكوا الدنيا وامتلكوا ناصية أمم بعيدة الشأو في المدنية.
انقلب رعاة الشاة والإبل رعاة لأرقى طوائف البشر في العلم والنظام والمدنية، وصاروا أساتذة في العلم والأدب والتهذيب، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}.القصص5
· ما هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي.
· ما هذا النشاط القريب بعد ذلك الخمود العجيب.
· ما هذا الانتباه السريع بعد ذلك السبات العميق.
· إنه لغز من ألغاز التاريخ؟؟؟!!
كيف فتحوا مصر وسورية وفارس وملكوا تركستان الغربية، وانتزعوا أفريقيا من البيزنطيين والبربر وأسبانيا وانتهوا إلى فرنسا.
إن العرب أصبحوا بفضل تعليم نبيهم العظيم محمد صلى الله عليه وسلم أصحاب دين ورسالة فُبعثوا بعثاً جديداً، وخلقوا من جديد وانقلبوا في أنفسهم فانقلبت لهم الدنيا غير ما كانت وانقلبوا لها غير ما كانوا.
يقول ابن مسعود: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيئ.
لقد ربى النبي محمد صلى الله عليه وسلم جيلاً فريداً من الرجال لم يعرف لهم في تاريخ البشرية الطويل مثيل، لقد ارتقى أصحاب محمد قمماً سامقة وحازوا قصب السبق في التقوى والورع والإخلاص ومشعل في العلم ونبراس في الدعوة والحركة.
يقول التاريخ إني لم أشهد رجالاً مثل هؤلاء عقدوا عزمهم ونواياهم على غاية تناهت في العدالة والسمو، ثم نذروا لها حياتهم، فخرجوا من ديارهم وأموالهم على عقد تناهى في الجسارة والتضحية والبذل، كما شهدت في أوائل الصحب الكرام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد بعثت عقيدة الإسلام طمأنينة في أنفسهم وسكينة في قلوبهم وشجاعة خارقة للعادة واستهانة بالعدد والعداد وعرفوا أنهم يقاتلون بقوة هذا الدين ويظفرون ويغلبون ببركة هذا الدين، لا يهولهم شيء ولا يعظم في عينهم شيء، ثقة بنصر الله، واعتماداً على موعود الله حتى أنهم خاضوا بخيولهم في دجلة وكأنهم سائرون على الأرض.
أورثتهم عقيدة التوحيد قوة إيمان ملأت قلوبهم فأثمرت علماً نقياً أورثهم خشية الله وإخباتا، وأثمرت يقيناً صادقاً جازماً فأورثهم توكلاً مطلقاً على الله وحده، أثمرت صبراً عظيماً في مواطن البلاء، وشكراً حميداً في مواطن السراء، أثمرت حباً للقاء الله العظيم فأورثهم زهداً في الدنيا وإيثاراً للآخرة.
ولما طال على المسلمين الأمر، ونسوا تعاليم نبيهم لهم، قست قلوبهم، وصاروا يعيشون حياة لاهية، حياة من لا يعرف نبياً، ولا يؤمن برسالة، ولا يرجو حساباً ولا يخشى معاداً، وأشبهوا الأمم التي كانوا يقاتلونها بالأمس.
لا هَمّ لهم ولا شغل إلا الأكل والشرب والتناسل، أصبحوا كرعايا الناس ليس لهم فرقان ولا نور يمشون به بين الناس، حياتهم تحاسد، حياتهم بغضاء، حياتهم تنافس على السلطة وتكالب على حطام الدنيا وإعراض عن الآخرة، وسفك للدماء وهتك للأعراض وهضم للحقوق وغدر بالعهود وتعدٍّ على حدود الله، فهانوا على الله مع أسمائهم الإسلامية، ومع وجود الصالحين فيهم، فأوكلهم إلى أنفسهم كما زهدوا في التوكل عليه.
ومازالوا على تلك الحالة من الغفلة واللهو والظلم وغشيتهم الفتن وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقتلوا وسفكوا واستباحوا المحارم والدماء والأموال والديار، وتبدلت أسباب القوة التي أحرزت الانتصارات والفتوحات من قوة إيمان، وإعلاء لراية التوحيد، من يقين وتوكل وصبر وشكر من علم بالشريعة من إعزاز لكتاب الله الخالد، من زهد في الدنيا وإيثار للآخرة.
تبدلت بأسباب الضعف التي يصعب حصرها.
لقد فتش أعداء الإسلام عن منابع القوة الكامنة في نفوس المسلمين وقلوبهم فوجدوا أنها تنبعث من الإيمان فهو مصدر قوتهم ومصدر حياتهم ومصدر عزهم.. فسلطوا على المسلمين عدوين هما أفتك بهم من المغول والتتار ومن الوباء الفتاك.
الأول: الشك وضعف اليقين الذي لا شيء أضعف للإنسان منه وأدعى للجبن والتخاذل منه.
الثاني: ما يعبر عنه بالذل النفسي والهوان فصاروا يشعرون بالذل والهوان ويؤمنون بفضل الغرب في كل شيء، وإذا تمكن هذا الذل من نفوس أمة فكبِّر عليها أربعاً وإن كنت تراها تغدو وتروح وتأكل وتعيش.
إن الحضارة المادية الغربية التي غزت بلاد المسلمين أخرجت جيلاً من المسلمين متنور الذهن ولكنه مظلم الروح أجوف القلب، ضعيف اليقين، قليل الدين، قليل الصبر والجلد، ضعيف الإرادة، مخنث العزم يبيع دينه بدنياه، وآجله بعاجله، يبيع أمته وبلاده بعرض من الدنيا قليل، هؤلاء صاروا وللأسف كتاباً، وأدباء وزعماء وقادة ومسئولين، دعاة متمرسين ومتعلمين ومربين لأجيال ثم أجيال هؤلاء هم الذين نشروا في المسلمين الجبن والوهن، وصرفوا المسلمين عن الاتكال على الله إلى الاعتماد على أنفسهم ثم إلى الاعتماد على غيرهم، وأطفؤوا في قلوبهم شعلة الغيرة والحمية للدين.
ولقد ثبت أن المد والجزر في تاريخ الإسلام والمسلمين مرتبطان بالمد والجزر في الإيمان وقوة معنوياتهم التي تنبثق من الدين منبع قوة هذه الأمة.
وهنا يوقع التاريخ بكلمته الخالدة قائلاً "لن يصلح آخر هذه الآمة إلا بما صلح بها أولها".
فإذا أردنا القدوة والأسوة، إذا أردنا السيادة والريادة، إذا أردنا العزة والقوة إذا أردنا نشر دعوة الحق والنور والعدل فهؤلاء الذين سبقونا بالإيمان.
هؤلاء خير جيل عرفته البشرية.
هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليكونوا لنا أسوة وقدوة.
فإلى هؤلاء نسير، وبهم نحتفي، وعلى أيديهم نتعلم، إلى هذه الحديقة الغناء نطوف بين رياضها العطرة التي تفوح أريجها معطراً بشذا الجنان الفيحاء.
نتنقل في هذه الحديقة، التي حوت من الأزهار أجملها، ومن الرياحين أطيبها، ومن المياه أعذبها لنتعرف على رجال تربوا على مائدة القرآن.
نتعرف على رجال معلمهم إمام الأنبياء وسيد المرسلين.
نرى إيمانهم ـ نرى ثباتهم ـ بطولتهم ـ ولاءهم لله ولرسوله.
نرى البذل الذي بذلوه، والهول الذي تحملوا، والفوز الذي أحرزوا.
نرى الدور العظيم الذي قاموا به لتحرير البشرية من وثنية الضمير وضياع المصير.
نرى كيف فتحوا قلوب العباد قبل فتح البلاد.
نرى كيف بذلوا أنفسهم في سبيل الله رخيصة يوم أن ضن غيرهم بالدينار والدرهم.
نرى كيف وهبوا لله أموالهم وأنفسهم وديارهم وأبناءهم.
هؤلاء هم القدوة هم الأسوة هم الأساتذة هم المربون فمن كان متأسياً فليتأس بهم فإنهم أبر الناس قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً.
من أجل ذلك قصدنا إبراز تاريخ وحياة هؤلاء الأفذاذ والتركيز على ما قاموا به في تحملهم أمانة الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة التوحيد الخالص. ونشر تعاليم هذا الدين بالحب والود، من حرية وعدالة ونصرة للمظلوم وتكافل اجتماعي مشرف، فأصابهم في سبيل ذلك ما أصابهم من الأذى والعنت والمشقة فصبروا واحتملوا.
لنعرف لهم قدرهم وفضلهم، وندين لهم بالفضل، فلولاهم ما وصل إلينا الإسلام نقياً صافياً ونحبب شبابنا في التأسي بهم والاعتزاز بالانتساب إليهم، ليرتبط حاضر هذه الأمة بماضيها العريق صاحب التاريخ المشرق المنير في الدعوة ونشر العلم والنور والحق وقيادة البشرية قيادة راشدة.
راجين الله أن تفيق هذه الأمة من غفلتها وأن تصحو من ثباتها وأن تعود للريادة والسيادة فتقود العالم للخير والفلاح والرشاد.
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع