خلقت مقابلة سمو الأمير الحسن على الفضائية الأردنية صدى واسعاً لدى قطاعات مجتمعية عريضة، ممن حمّلوا الكلمات دلالات كبيرة، وبدت ردود الفعل خارج طبيعة المقابلة وحتى "الصفة الرسمية" للأمير، بوصفه مفكّراً ومثقفاً رئيساً لمنتدى الفكر العربي، ليس له موقع تنفيذي حالياً في الدولة، مما يجعل من تحجيم النقاش وتأطيره في الوضع الحقيقي له والصفة غير الرسمية للمقابلة أمراً مهماً ومطلوباً من القائمين على الأمر.
بعض العبارات التي استخدمها الأمير، وهي  مرهونة بمرحلة كانت العلاقة بين الدولة والمجتمع ذات طابع أبوي مختلفة عن اللحظة التاريخية الراهنة، ضربت على العصب الاجتماعي والسياسي لمجتمع مغموس في أزمة سياسية واقتصادية، تهيمن عليه مناخات الربيع العربي والتوق إلى تغييرات سياسية عميقة نحو الحرية والديمقراطية، والتخلص من تبعات المرحلة السابقة.
خطورة  التداعيات السياسية والشعبية للمقابلة أنّها تجاوزت الأمير إلى فتح جروح في طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، في وقت تسعى فيه الدولة إلى تجاوز ذلك عبر تجديد العقد الاجتماعي وتطويره، من خلال مشروع الإصلاح السياسي والدستوري. لكن صدى المقابلة مهم، من زاوية أخرى، إذ يعيد التأكيد على أنّ الشروط التي قامت عليها المعادلة السياسية منذ السبعينيات إلى السنوات الماضية انتهت. فنحن أمام واقع جديد ومرحلة مختلفة في طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، تجسّد في جوهر الأزمة السياسية التي بدأت شرارتها تصيب العلاقة بين الدولة والحكومات والمجتمع منذ سنوات.
أحد المسارات الناجحة التي مضت فيها الدولة للاستجابة للمتغيرات هو الإصلاح السياسي، وهو كفيل -في نهاية اليوم- إذا تمّ الالتزام به، بصورة أمينة وجادّة وتوافقية مع المعارضة التقليدية والجديدة، أن يحُدَّ من عمق الأزمة السياسية وأبعادها، وأن يأتي لنا ببرلمان جديد أكثر تمثيلاً وتعبيراً عن الشارع، ونوعية من النواب أفضل بعد توسيع الدوائر الانتخابية، وفي الوقت نفسه حكومات وفق قواعد جديدة للعبة السياسية تأخذ منحى أقرب إلى الصيغة الديمقراطية والتوافقية الوطنية.
مع ذلك، تبقى هنالك فجوة عميقة ما يزال "مطبخ القرار" عاجزاً عن التعامل معها، وتتمثّل في قراءة الإطار الكلي للتحولات الاقتصادية-الاجتماعية، وما يترتب عليها من متغيرات سياسية ورمزية. فالدولة لم تبنِ رسالة سياسية وإعلامية جديدة واضحة وصارمة، تحدّد فيها مفهوم العقد الاجتماعي المستقبلي (الحقوق والواجبات: ماذا تريد الدولة وماذا يريد المواطن؟)، بل على النقيض من ذلك تبدو رسالة الدولة اليوم مرتبكة وتائهة.
ارتباك رسالة الدولة ينعكس بعمق على العلاقة بينها وبين المجتمع والأفراد، وهو ما يؤدي إلى تعزيز سؤال الهوية الوطنية وهواجسها، ويمنح القوة للتيارات المتشككة ويعطي خطاباتها ذرائع كبيرة. وينعكس ذلك في غياب الرؤية الاستراتيجية، والاعتماد في إدارة الأزمات على طريقة "القطعة"، ما يؤدي إلى التخبط والفوضى وكأننا في "حرب الكل ضد الكل"، التي تدور رحاها حالياً، وتأكل من رصيدنا السياسي والمعنوي!
اليوم، تبدو "المنطقة الوسطى"، التي يجب أن تقف عليها الدولة، مقفرة رخوة، مهزوزة، بل إنّ النخب التي نجحت الدولة في التماهي معها وجذبها إليها في مراحل سابقة، تنفضّ عنها، وتعود إلى اليمين هنا وهناك.
صحيح أنّ الإصلاح السياسي ضرورة ومسار حيوي وخصب لتأمين العبور الآمن إلى المرحلة المقبلة، لكنه غير كاف! إذ نحتاج الآن إلى مهمة عاجلة وعميقة تتمثل في الاستعانة بعقول مفكّرة خبيرة توصّف الأزمة بأبعادها المختلفة، وتضع رؤية استراتيجية لتجديد فلسفة الدولة لدينا، وتعريف مهماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لبناء قدرتها على مواجهة التحديات والأخطار، حتى تكون الصورة أكثر وضوحاً أمام الجميع، ما يقطع الطريق على حالة القلق والمخاوف مما تحمله المرحلة المقبلة.
 

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد