أرسل الملك، خلال الأيام الماضية، ثلاث رسائل متزامنة، بدلالة مشتركة وواضحة. إذ أمر بإصدار عفو خاص عن الناشط عدي أبو عيسى الذي اتهم بإحراق صورة الملك، وفي الوقت نفسه وافقت محكمة أمن الدولة على تكفيل د. أحمد عويدي العبادي، وتمثلت الرسالة الثالثة في زيارة الملك للأمن العام، ثم تنازل المشتكين من أفراده عن حقهم تجاه الشباب الذين كانوا ما يزالون معتقلين إلى ذلك اليوم، منذ اعتصام الكالوتي قبل أكثر من أسبوع.
خلال الأشهر الماضية، خرج خطاب أطياف من المعارضة عن المألوف، واجتاح الخطوط الحمراء، وفي بعض الأحيان بصورة غير موضوعية ولا منطقية، ما جعل أطرافاً رسمية تشعر بالقلق من إرهاصات انفلات كبير في حرية التعبير، وبما يؤذن برفع سقف المعارضة السياسية. فقُرئت الإجراءات التي تم اتخاذها بحق أولئك الأشخاص مؤخراً بمثابة محاولة لاحتواء هذه النزعات، وتوجيه رسالة قوية بوجود "أنياب" للدولة إذا "تجاوزت الأمور الحد".
إلاّ أنّ العفو عن أبو عيسى وتكفيل العبادي وتنازل منتسبي الأمن العام عن حقهم تجاه هؤلاء الشباب، يحمل في طيّاته رسالة مختلفة تماماً، تستبطن قناعة جديدة بأنّ "عقارب الساعة لا تعود إلى وراء"، وأنّ التعامل مع "سقف حرية التعبير" لم يعد في زمن الربيع الديمقراطي العربي وفي عهد "الفيسبوك" و"تويتر" والمدونات، كما كان عليه الحال سابقاً، وهو ما لا يمكن بعد اليوم إيقافه أو مواجهته بالأساليب التقليدية، بقدر ما يتطلب الأمر "التعايش" معه والتفكير بوسائل جديدة للتعامل معه.
سقف التعبير الجديد، وإن كان يُقلق تياراً رسمياً، إلاّ أنّ الصداع المترتب على استخدام "الطرق التقليدية" والزج بالناس في السجن والاعتقال لآرائهم، حتى لو كانت متطرفة أو خارج المألوف، بات اليوم يمثّل صداعاً أكبر وأكثر خطورة، إذ إنّه يرسل برسالة في الاتجاه المناقض تماماً لسعي الدولة إلى تأكيد التزامها بإطلاق الإصلاح السياسي والحريات العامة والمضي خطوات واسعة إلى الأمام.
المفارقة أنّ الاهتمام بالقضايا السابقة لم يكن بالقيمة ذاتها إعلامياً، داخلياً وخارجياً، لو أنّها سارت بدون أن يكترث بها المسؤولون، بل ربما اتخذ الرأي العام موقفاً مختلفاً تجاهها، لكن التدخل الرسمي في أحيان كثيرة يأتي بنتائج معاكسة تماماً لما هو مطلوب.
في الوقت الذي لا يمكن إنكار أنّ هنالك بعض الخطابات المعارضة بدأت تأخذ طابعاً عدمياً أو متطرفاً، خارج سياق المزاج السياسي الشعبي نفسه، الذي وإن كان يطالب بالإصلاح السياسي والاقتصادي عموماً، إلاّ أنّه حريص على تجنب سيناريو الصدام أو الفوضى الداخلية، لما لذلك من تبعات مقلقة على الجميع؛ مع ذلك، فإنّ الدولة بحاجة إلى أن تخرج من "الصندوق التقليدي" في مواجهة هذه النزعات، لأنه أصبح عبئاً على الأمن والاستقرار، وعلى قدرة الدولة على بناء رؤية مستقبلية متقدمة تجاه الإعلام وحرية التعبير والحريات العامة.
في المحصلة؛ المطلوب من مراكز القرار في المرحلة المقبلة أن تتجاوز القلق من تجاوز بعض الخطابات الخطوط الحمراء، إلى الحرص على إبقاء المزاج السياسي الشعبي في مساحة الخطاب المعتدل، فهذا هو الأهم في لحظة الثورة الديمقراطية العربية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد