في العام 1940 من القرن المنصرم، وفي الفترة التي كانت مصر والوطن العربي كله على مشارف مرحلة جديدة في كل أنحاء الحياة، كتب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين مقالا نُشر في مجلة " الإصلاح الاجتماعي" بعنوان {مدرسة المروءة} أوضح فيه حاجة الأمة إلى أن تتعلم الأخلاق بصورة نظامية متابعة من الجهات المسؤولة، ومزدريا ساخرا ـ في الوقت ذاته ـ من حالة الفساد الأخلاقي، واضمحلال المعاني النبيلة، واعتبار البعض مكارم الأخلاق بما فيها المروءة ضربا من التجارة يُلَبِّسها الغش والخداع والمواربة للحصول على مصالحه الشخصية دون شعور أو إحساس بالآخرين.
لقد شغلت المروءة بال المفكرين والمصلحين وذلك لما رأوا حالة المجتمع الذي يعيشون فيه حتى قال مالك بن دينار:"لو كنت شاعراً لرثيت المروءة". إنه الشعور الجارف بمدى أهمية المروءة في حياة الناس، وكونها محركا أساسيا لتصرفاتهم وسلوكياتهم، وهذا ما أهاب بهم للتأليف حولها شارحين مفهومها، وموضحين دلالات مفرداتها وآثارها على المجتمع، فكان من أقدم من تناولها تأليفا مستقلا صالح بن جناح اللخمي الدمشقي، ثم أبو عمرو الجاحظ، وعبد الملك بن محمد الثعالبي ( مرآة المروءة)، وابن أبي الدنيا، وغيرهم كثير.
كما تناولها من المعاصرين رفاعة الطهطاوي في كتابه " مناهج الألباب العصرية في مباهج الآداب المصرية"، وكتب عنها شيخ الأزهر محمد الخضر حسين دراسة ضخمة بعنوان" المروءة ومظاهرها الصادقة"، وأدرج الأستاذ/ أحمد أمين في كتابه" فيض الخاطر مقالة حول المروءة ومعالمها في حياة الناس، وكتب عنها محمد إبراهيم سليم كتابه" المروءة الغائبة" وغير هؤلاء كثير.
وليس هذا رصدا للمؤلفات حول المروءة التي ظلت المصطلح الأكثر شهرة ودورانا بين أفراد المجتمع وعلمائه ومفكريه، ولكنه إشارة سريعة لأنها أكثر من أن تحصر، وهذا الجهد الضخم نابع في أساسه من الشعور الجارف والإيمان بقيمة خلق المروءة وأهميته في صيانة المجتمع وحمايته، إذ أنه يؤسس في نسيج المجتمع قيما تتجاوز مجرد ضروريات الأخلاق والتعامل وفق قواعد المعاملة بالمثل إلى نوع من الأخلاق العليا التي تمتاز بالأريحية والتعاون ومساعدة الآخرين، فقد كانت المروءة في المرتبة التالية بعد أوامر الدين وأصوله في توجيه أخلاقيات الناس وسلوكياتهم، قال الشّعبيّ:" تعايش الناس زماناً بالدّين حتى ذهب الدّين، وتعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثمّ تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثمّ تعايشوا بالرّغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زماناً طويلاً."
إن هذا الرصد ـ من عالم شغوف بالعلم ومتأمل لحال المجتمع وتطورات أخلاقه وتنقلاتها، والذي عايش جيلي الصحابة والتابعين ـ لموجهات سلوك الناس في المجتمع الإسلامي، يدل على قيمة المروءة وما تمثله من أهمية، ولفظة التعايش بها ما يدل على حيويتها وفاعليتها.
ولما كانت المروءة رغبة كل إنسان، وهمَّ كل مشغوف بها، وبعض هؤلاء لا تمكنه ظروفه من أداء التزاماتها تجاه أفراد مجتمعه فيبكي على ما لا تملك قدراته وإمكانياته، قال أبوتمام:
إِنّي أَرى تِربَ المُروءَةِ باكِياً فَأَكادُ أَبكي مُعظِماً لِبُكائِهِ
والترب هو الذي التصقت يداه بالتراب من الفقر والحاجة، فكأنه لا يجد ما يملكه غير التراب، وهذا ما يبكيه ويبكي شاعرنا معه.
بل إن الشعور بمدى كلفة المروءة والتزاماتها جعلت شاعرا كالمتنبي، وهو الذي حاول أن يبث الأخلاق العربية ومعالي المكارم الأخلاقية في شعره ويحببه إلى النفس فقال:
تَلَذُّ لَهُ المُروءَةُ وَهيَ تُؤذي وَمَن يَعشَق يَلَذُّ لَهُ الغَرامُ
إن المروءة ليست تشريفا وتكريما لصاحبها بدون التزامات، بل هي تكاليف اجتماعية تفرض نفسها على محبها وعاشقها، حتى أنه ليشعر بالسعادة بإيذائها وثقلها ومدى المسؤولية التي تحملها المروءة له.
وكان أحمد شوقي يراها حائط الدين الحافظ له، إذ لا دين لمن لا مروءة له:
وَمِنَ المُروءَةِ وَهيَ حائِطُ دينِنا أَن نَذكُرَ الإِصلاحَ وَالإِحسانا
وكانت تطرب النفوس الكبيرة تطرب عند سماع حكاياتها، قال حافظ إبراهيم:
إِنّي لَتُطرِبُني الخِلالُ كَريمَةً طَرَبَ الغَريبِ بِأَوبَةٍ وَتَلاقي
وَتَهُزُّني ذِكرى المُروءَةِ وَالنَدى بَينَ الشَمائِلِ هِزَّةَ المُشتاقِ
هذه اللمحات السريعة إلى أهمية خلق المروءة على المستوى النظري تشير إلى تأثيرها الواضح والبارز في الواقع الاجتماعي، كما أنها تشير أيضا إلى كونها كانت معيارا أساسيا من المعايير الأخلاقية في التفريق بين نوعيات السلوك والتصرف من حيث حسنه أو سوئه، من اعتراف المجتمع له أو كراهيته له، إضافة إلى الاعتداد بها في الفتوى وإصدار الحكم الشرعي باعتبارها المثل الأعلى في الأخلاق، قال الحسن البصري:"لا دين إلا بمروءة "، ولم يكن يؤخذ بقول أحدٍ مهما كان إلا إذا كان يمتلك مقومات المروءة، ويطلق عليها في اصطلاح الفقهاء العدالة وصاحبها العدل، وهو من تكون حسناته غالبة على سيئاته، والعدالة صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة عادة في الظاهر. وليس في ذلك مبالغة بل كان الأمر على الأكثر والأغلب قَالَ الشَّافِعِيُّ:" فَإِنْ كَانَ الأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ؛ الأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةُ وَالْمُرُوءَةُ قُبِلَتْ شَهَادَتُه،ُ وَإِذَا كَانَ الأَغْلَبُ الأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الْمَعْصِيَةُ وَخِلاَفُ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ. ويزيد الأمر توضيحا بقوله، :" لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ نَعْلَمُهُ إلا أَنْ لاَ يَكُونَ قَلِيلاً يَمْحَضُ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ حَتَّى لاَ يَخْلِطَهَا بِمَعْصِيَةٍ، وَلاَ تَرَكَ الْمُرُوءَةَ. وَلاَ يَمْحَضُ الْمَعْصِيَةَ؛ وَتَرْكَ الْمُرُوءَةَ حَتَّى لاَ يَخْلِطَهَا بِشَيءٍ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُرُوءَةِ".وإن نظرة سريعة إلى أحد كتب الفقه والتشريع سنرى المروءة ماثلة حدا فاصلا في بعض القضايا، لاسيما تلك المتعلقة بالممارسات الاجتماعية والإنسانية بين الأفراد بعضهم البعض، سواء على المستوى الأسري، أو العائلي، أو العمل وغيره.
رجولية وإنسانية
وقد أجمعت كتب اللغة الموسعة، وكتب الحدود والتعاريف على أن كلمة المروءة هي{الإِنْسَانِيِّةُ، وأنها كَمَالُ الرُّجُولِيَّةِ} كما قالوا بأنها قد تُشَدَّدُ بعد قلب الهمزة واوا فتقول:{مُرُوَّةٌ}، وهذه الإشارة التي تجمع بين المروءة وبين خصائصها الاجتماعية باعتبارها عملا إنسانيا يمت إلى مفهوم الرجولة بأقوى الصلات حتى عدوها هي تمام وكمال الرجولة، وهذا يوضح من زاوية أخرى تغلغلها في الثقافة العربية، وامتزاجها بمكوناتها مما جعل الباحث الدكتور محمد جابر العابدي يعدها خلقا عربيا خالصا، بل هي الخلق العربي الأصيل ، وبتعبيره"هي فضيلة عربية محضة" في كتابه (العقل الأخلاقي العربي). كونها تغلغلت في نفوس العرب وسيطرت على وجدانههم وشعورهم، وأصبحت ذات دور بارز في تحريك السلوك وتوجيه التصرفات، وأبين دليل على ذلك كون صاحبها يمدح دائما بأنه صاحب رجولة أو أنه ذو مروة.
خُلُقٌ مُعَلَمٌ
يرى بعض الباحثين أن الأخلاق تتوارث، ولا يمكن أن تعلم، وبالتالي صعوبة التعامل معها في إطار تعليمي مؤسسي لغلبة الطبع عليها، ولكن يأتي كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حسما أكيدا لهذه المسألة قال:" إنما العلم بالتعلم ، والحلم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتوق الشر يوقه".
والمروءة لم تكن خلقا غير واضح المعالم، ولا هي وهم يعصف في عقل صاحبه، ولا هي بحث عن رفات قيم وعادات بالية عفا عليها الدهر ولم تصبح صالحة لعصرنا الذي أصبحت الذاتية روحه، والأنا كيانه، والآخرون هم الجحيم الذين يجب أن أضعهم تحت أقدامي إذا لاحت لي بوادر مصلحة ومغنم، فقد كانوا يتعلمونها ويدرسونها في مجالسهم ومنتدياتهم يدل على ذلك تسائلهم الدائم عن حدودها ومعناها، وتشير بعض الأخبار التي وصلت إلينا إلى أن بعض الشخصيات كانت تعلم المروءة وتبثها في النفوس، من هؤلاء زيد بن حيلة الذي قال عنه الأحنف بن قيس "طالما خرقنا النعال إلى زيد بن حيلة، فنتعلم منه المروءة، يعني في الجاهلية"، وقال ابن عمر:" ما حمل الرجال حملا أثقل من المروءة. فقال له أصحابه: أصلحك الله، صف لنا المروءة. فقال: ما لذلك عندي حد أعرفه. فألح عليه رجل منهم، فقال: ما أدري ما أقول، إلا أني ما استحييت من شيء علانية إلا استحيت منه سرا". إن هذا الحوار يدل دلالة أكيدة على حبهم الشديد إلى تعلم المروءة والتعرف على أهم مفرداتها.
قال رجل في مصعب بن عبد الله أنه كان يشرب النبيذ فقال أحدهم ردا عليه:" كان ذلك قبل أن يطلب المروءة فأما مذ طلبها فلو علم أن الماء ينقص مروءته ما ذاقه". وكان ذو النون المصري يقول:" من أراد أن يتعلم المروءة والظرف، فعليه بسقاة الماء ببغداد......، وقال فضل بن دلهم:"كنا نتعلم المروءة في عسكر هشام بن عبدالملك كما يتعلم الإنسان القرآن"، قال الزهري:"ما طلب الناس خيرا من المروءة".
ولازالت المروءة من أهم المشاريع الأخلاقية الثقافية التي حاولت العديد من المؤسسات والشخصيات ذات النفوذ سواء من جهة سلطتها، أو مكانتها المادية والمعنوية أو منزلتها العلمية تأسيسها في نسيج المجتمع، كي تصبح أحد الرؤى الرئيسة والمعطيات الأساسية في تعامل أفراد المجتمع مع بعضهم البعض مما كان له أبلغ الأثر على الناحية كما سنرى إن شاء الله تعالى.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع