في العام 1955، خرج طلاب مدرسة السلط الثانوية عبر مظاهرات واحتجاجات سياسية وطنية للإعلان عن عدم الموافقة على دخول الأردن حلف بغداد، وكادت المدينة تتعرض للقصف المدفعي. وأدت المظاهرات إلى إجبار الدولة على التخلي عن هذا الحلف، واستقالت حكومة هزّاع المجالي بعد أيام قليلة على تشكيلها.
في العام 2011، أي قبل أيام، حدثت مشاجرة عشائرية بين مجموعة من الطلبة في السلط، انتقلت خارج أسوار جامعة البلقاء التطبيقية، بعد أن تداول الشباب "نداءات حركية"، فهبوا من كلا الطرفين، وتركوا المدارس والجامعات ليشاركوا في مشاجرة، أحسب أنّ أغلبهم لا يعرفون سببها.
انتقلت المواجهة، في اليوم التالي، لتصبح بين قوات الدرك وشباب المدينة، بعد أن علّقت الجامعة الدوام في ذلك اليوم. وكانت المفاجأة بإحراق سيارات مدنية وآلية للبلدية، وواجهات بنوك، والاعتداء على مبنى مديرية السير! مع استخدام للعبوات المتفجرة والحجارة، وهنالك شهود يؤكدون أنّ "تبادلاً لإطلاق النار وقع". عادت قوات الدرك في اليوم التالي لترد بقسوة مفرطة على الاعتداءات السابقة، ما أدى إلى تأجيج الموقف إلى فجر أمس الثلاثاء، مع عجز وجهاء المدينة وأعيانها عن إنهاء "طابق التوتر"، إذ كانت جهودهم تقابل بالرفض من قبل الشباب الصغار المتجمهرين. وقد رفضت السلطات إطلاق سراح جميع المعتقلين، إذ أفرجت عن جزء، وحولت آخرين إلى محكمة أمن الدولة.
المفارقة الأساسية أنّ قليلين يعرفون أساس المشكلة، وأقل منهم لديهم تخمين أو تفسير لماذا تحوّلت المشاجرة إلى صدام مع قوات الدرك، بدون أن يكون هنالك هدف أو غاية واضحين. والأكثر ألماً في الموضوع بأسره أنّ من يقومون بالمواجهة مع الدرك هذه المرة ويتحركون بسرعة في أغلب المشاجرات والاشتباكات الشبيهة، سواء مع الدولة أو طرف آخر، هم من أبناء المدارس والجامعات، أي أنّهم جيل الشباب الذي يفترض فيه أن يحمل رسالة العلم والتنوير والحداثة لا كما يحدث حالياً.
خلال المظاهرات والمسيرات وبروز الحراكات، التي عمّت المملكة، خلال الأشهر الماضية، كانت السلط من المدن التي لم تشهد حراكاً متوازياً مع المحافظات الأخرى، بل جاء النشاط فيها متأخراً، محدوداً وضعيفاً، وهو ما اعتبره المسؤولون أمراً إيجابياً وعلامة صحية. فيما يثبت العنف الحالي، وما سبقه بأيام من إحراق للإطارات وإغلاق طريق السلط، وقبلها من مشاجرة عشائرية، أنّ البديل عن وجود الحراك الإصلاحي السياسي الذي يقدّم مطالب متطورة هو التفكك والعنف الاجتماعي، وهو "رهان" إذا بدأ في المجتمع فسينتهي بضرب هيبة الدولة واحترامها وقيمها.
مدارس السلط خرّجت قيادات الدولة والمجتمع، طلبة ومعلمين، وكانت موطن الحوار السياسي والفكري والأيديولوجي. أما اليوم، فتنقلب الآية تماماً، فيما تبدو المدينة التي احتضنت "الزعامات التاريخية" مشلولة وغير قادرة على التعامل مع عنف وشغب غير مبرّر، ولا منطقي ولا مقبول.
ما السبب؟ إنّها سياسات الدولة التي فرّغت المدينة من قياداتها الحقيقية وأضعفت الزعامات، وخلقت "بدائل" خشبية لا تتمتع بالشرعية الشعبية الفاعلة، وهي السياسات نفسها التي حاربت العمل السياسي والوطني والحزبي، وقتلت روح المدينة، فكانت النتيجة خواء روحيا وفكريا وثقافيا ونكوصا مرعبا لدى جيل الشباب وطلبة الجامعات والمدارس!
وهي السياسات الاقتصادية التي أضعفت "الطبقة الوسطى" في المدينة من دون أن تقدّم استراتيجيات موازية صحيحة، فخلقت إحباطاً وبطالة وعجزاً اقتصادياً ممزوجاً بروح الأنفة والكبرياء والاعتزاز بالذات، ما ولّد "تمرّداً" يكشف عن نفسه أحياناً، لكن ما هو مكبوت أكبر بكثير!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد