في محاضرة د. عمر الرزاز أول من أمس حول الانتقال من الدولة الريعية إلى دولة الإنتاج والمواطنة (بمكتبة الجامعة الأردنية)، زوايا مهمة وعميقة في التحليل والقراءة لطبيعة العلاقة بين النظام الاقتصادي والسياسي القائم في الدول العربية، والخصائص والسمات الكارثية التي يفرضها هذا النمط على جوانب الحياة المختلفة.
يصف د. الرزاز العقد الاجتماعي القائم في العالم العربي المتلبس بالنظام الريعي بأنّه "عقد إذعان" للدولة التي تملك الموارد والحصص وتقوم بتوزيعها على المواطنين وفق آليات تخدم السلطة وبقاءها، باستغلال طبيعة الموارد القادمة للخزينة التي لا حسيب ولا رقيب عليها من قبل الشعب، طالما أنّ هذا النمط (الريعي أو شبه الريعي- بحسب طبيعة العلاقة الزبونية بين السلطة والشعب) يقوم على منطق الترغيب والتهديد، لا على المواطنة أو الحقوق والواجبات.
يطرح الرزاز في محاضرته المكثفة جُملةً كبيرةً من المفاهيم والنظريات المهمة، حتى على المستوى الجزئي، مثل الانتقال من التركيز على حاكمية الموازنة إلى حاكمية المال العام، فالمشكلة لا تكمن فقط في التجاوزات التي تتم في التعامل مع الموازنات وغياب الشفافية، بل تتجاوز ذلك إلى مفهوم المال العام والتعامل معه من قبل المسؤولين في الدول الريعية.
ومن بين القضايا التي يطرحها الخطأ الفادح في إسقاط النظريات الغربية في إدارة السوق ودور القطاع الخاص في العالم الغربي أوتوماتيكياً على العالم العربي، الذي تختلف ضروراته وأولوياته الاقتصادية والتنموية عن تلك الدول.
وينتقد الرزاز، أيضاً، النظريات التي روّجت لها الحكومات العربية في الفترة الماضية بأولوية التنمية الاقتصادية على الديمقراطية والإصلاح السياسي، مؤكّداً أن نجاح التنمية الاقتصادية يحتاج إلى نظام ديمقراطي يحمي المال العام ويؤطر المصالح الاقتصادية والسياسية بصورة صحيحة، ويوازن بين حاجة الناس إلى الخبز والكرامة والحرية على السواء، كما أثبت الربيع الديمقراطي العربي.
وعند مشارف الربيع الديمقراطي العربي يطرح الرزاز منظوراً استشرافياً لمآل الثورات الديمقراطية العربية عندما يحدّد أنّ ما تغير إلى الآن في النظامين التونسي والمصري هو رأس الدولة وليست طبيعة النظام، الذي ما يزال يعمل بالآليات والأدوات نفسها. ويرى الرزاز أنّ تغيير رأس النظام هو شرط ضروري للتخلص من النظام الريعي والانتقال إلى النظام الإنتاجي والديمقراطي. أما الاكتفاء بتغيير رأس النظام أو بعض المسؤولين الكبار، فلن يؤدي في النهاية إلاّ إلى تغيير الوجوه مع بقاء الأسس والآليات والديناميكيات الريعية مستمرة بإنتاج التخلف.
في هذه المقاربة يمسك الرزاز بجوهر المسألة الثقافية ويموضعها بصورة رائعة في قراءة الربيع الديمقراطي العربي. ذلك أنّ نهضة الشعوب العربية ودخولها في الدورة التاريخية لن يتأتى من إقامة انتخابات ديمقراطية حرة ووجود حكومات برلمانية وكفى الله المؤمنين القتال، بل ما هو أهم من ذلك التخلص من النمط الريعي في العلاقات السياسية والاقتصادية والانتقال إلى نمط الاقتصاد المنتج الذي يؤدي بدوره إلى تغييرات ثقافية مهمة، ويعيد تعريف العلاقة بصورة عملية بين الدولة والفرد.
في الحقيقة أبدع د. الرزاز في محاضرته وقراءته الدقيقة والجريئة، ولعل الخلاصة المهمة أنّ المشكلة ليست بالنظم فقط، بل بالتحالف الوثيق بين السلطة المطلقة والنظام الريعي، وهو التحالف الذي مثّل –وفقاً لتعبير الرزاز- إكسير الحياة للنظام الرسمي العربي خلال العقود الماضية، والتخلص منه يتطلب إدراكاً عميقاً له ولاستراتيجية الخروج نحو نظام إنتاجي تعاقدي يقوم على أساس المواطنة والعدالة والحرية والكرامة، كما تتطلع الشعوب العربية اليوم.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد