ثمة ارتباك رسمي في قراءة الشارع، وهو ما ينعكس من خلال تخبط واضح. فتارةً تقدّم زجاجات الماء من الأمن، ويتخذ سلوك المسؤولين طابعاً "دافئاً"، وتارةً أخرى يواجَه المتظاهرون بالهراوات والضرب المبرّح، هذا بالإضافة إلى الظاهرة التي بدأت –للأسف- تتجذّر في مشهدنا السياسي (وتتمتع بموافقة ضمنية) متمثلة في "اعتداء مدنيين على المسيرات السلمية".
ارتباك القراءة الرسمية يغوض إلى درجة أعمق من ذلك، إذ إنّ المسؤولين مترددون في تقييم ما يحدث، فيما إذا كان لا يعدو وجود "مئات" المسيّسين، الذين لا يتمتعون بأي حضور شعبي، وشارع "راكد" لم يتحرّك، أم أنّنا أمام "فوهة" بركان من الإحباط والغضب والشعور بالمرارة!
بل أصبح أمراً معتاداً أن تسمع سخرية من المسؤولين تجاه المسيرات والحراكات الشعبية، فأحد هؤلاء يصف المتظاهرين بأنّهم يمارسون "النزهة" يوم الجمعة، وآخرون يرون بأنّ المسيرات لا تمتلك أجندة ولا خطابا، وتحاول "اختراع" عناوين وشعارات جديدة لأنّها باتت عاجزة عن إقناع الشارع بالتحرك.
هذه النظرة "القاصرة" للشارع، وما يحتضنه من كرة ملتهبة من السخط والإحباط، تتناقض تماماً مع "الفوبيا" المبالغ فيها من المسؤولين أنفسهم ضد أي حراك أو تحرك في الشارع.
فطالما أنّ هذه المسيرات محدودة، وحالة الشارع –الحمد لله- "قمرة وربيع"، فلماذا هذا القلق الشديد، بل و"الرهبة" الواضحة من هذا النشاط القانوني المشروع، بعد تعديل قانون الاجتماعات العامة؟!
لماذا العمل، من وراء ستار، على تسيير مسيرات ومهرجانات وحملات فاشلة ومحدودة (رغم التعبئة الإعلامية والسياسية) ضد الإصلاح، وتجييش مشاعر ومقالات تتهم الأحزاب السياسية والقوى المختلفة بشتى التهم؟! 
ما حدث في مسيرة الكرك الأخيرة وتداعياته هو أوضح مثال على تخبط المسؤولين. إذ لا يعقل أن تجتمع نوايا إصلاحية حقيقية مع عقلية عرفية ترعى الاعتداء على حق التجمع والتعبير! 
لو فرضنا –جدلاً- أنّ المؤسسات الرسمية غير مسؤولة عن ظاهرة "الاعتداء" هذه، فإنّها تتعامل معها بحنو وتعاطف واضحين تماماً للمراقبين، وهي ظاهرة نمت -وتترعرع- على أعين الدولة، ليصبح المعتدون على المتظاهرين غداً حالة قائمة بذاتها، تتطاول على الدولة نفسها وتبتزها!
لو فرضنا، مرة أخرى، بأنّ هؤلاء المعتدين هم مجرد مخالفين بالرأي لها، وأنّهم متطوعون وأفراد مستقلون! فهذا لا يجيز لهم الاعتداء على الآخرين، ومن واجب الدولة تطبيق القانون وحماية الاعتصامات والمسيرات، ومنع الطرف الآخر من القدوم إلى المكان نفسه، والقيام بتحويل المعتدين إلى القضاء ومحاكمتهم، فهذه من أبجديات دولة القانون والمواطنة.
ما حدث –ويحدث- هو العكس تماماً، إذ إنّ الدولة تتغاضى تماماً عن هذه الظاهرة التي تشكّل في جوهرها إساءة للأردن وسمعته وكرامته، وتطاولاً سافراً على سيادة الدولة وهيبتها، وتهز ثقة المواطنين بقوة الدولة وصلابتها ووحدة مؤسساتها.
النتيجة الأكثر خطورة هي ما تولده هذه الاعتداءات من استفزازات وتشكيك بنوايا الدولة فترفع من درجة المطالب الإصلاحية، وتدفعها إلى "سقوف" أعلى في كل مرّة، وهذا ما حدث تحديداً بعد مسيرة الكرك الأخيرة.
التوتر الرسمي تجاه الشارع غير مبرر على الإطلاق، فما يحدث حراك قانوني سلمي، وهو -من زاوية أخرى- يعكس احترام الدولة لحقوق الإنسان والمواطنة والحريات العامة.
آن الأوان أن يدرك المعنيون أن الوسائل التي استخدمت لـ"تسكين الشارع" وإرهاب المتظاهرين جاءت دوماً بنتائج عكسية ومدمرة، فهل نحتاج إلى تداعيات أكثر خطورة لإدراك هذا الدرس البدهي!
FacebookTwitterطباعةZoom INZoom OUTحفظComment

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد