قبل أيام كان بطرس غالي الذي فقد منصبه كأمين عام للامم المتحدة بسبب موقفه من مجزرة قانا يحتفل بعيد ميلاده التسعين، وللمصادفة كنت في اليوم ذاته أشارك صديقاً من أنداد غالي شغل العديد من المناصب السياسية الرفيعة عيد ميلاده الثمانين وكان ثالثنا ابنه وهو ايضا صديق، وقد أثار ابتهاجي في تسعينية بطرس غالي ما رواه عن حادثة رأيتها نموذجية في الكشف عن التكوين السايكولوجي للانسان العربي، قال انه كان بصحبة السادات في استراحة أحد مطارات مصر عندما التقى السادات مناحيم بيجن الذي بدأ يشكو اليه من بطرس غالي طالباً منه استبعاده من منصبه وهزّ السادات رأسه، لكنه لم يقل شيئاً، وبعد أقل من نصف ساعة فوجىء بطرس غالي بأن من قدموا العصير والقهوة للسادات وبيغن ومن معهم استثنوه، لأنهم ظنوا ان السادات استجاب لمطلب بيغن في عزله.. وتذكرت على الفور ما رُوي عن وزير لبناني ذات يوم عندما قال ان العشب نبت على درج بيته والعتبة لأنه ما ان خرج من منصبه حتى هجره الاقارب والأباعد.

صديقي عدنان أبوعودة الذي احتفلت معه وكان ثالثنا ابنه لا يقول ما قاله غالي أو الوزير اللبناني، ذلك ببساطة لأنه مثقف ولم تأخذه السياسة والمناصب التي طالما حسد عليها من اهتمامات معرفية خصوصاً في السايكولوجيا التي يقول بأن من يتعمق فيها لن يستغرب أي شيء أو أي سلوك بشري.

وللحظة تساءلت في بيت صديقي الدافىء عندما كان المطر ينقر النافذة، ماذا لو كان كل من تزلفوا اليه ظلوا قريبين منه ويملأون المقاعد في بيته ذي الطابقين؟

بالتأكيد سيكون المساء مجرد ثرثرة عقيمة أو نميمة سياسية أو همس ثنائي وينتهي المساء بأن يطلب منه بضعة أشخاص ما زاروه لأجله، سواء كان وظائف أو منحا دراسية أو أية وساطة.

لكن غياب هؤلاء أتاح لنا صديقي وأنا ان نتحدث عن ادغار الن بو الذي أحبه وأن نتناقش حول قصيدة لأحمد حجازي وان نقرأ معاً كتاب شلومو سانيد عن اختراع الشعب اليهودي وأن نتذكر مساءات حميمة في مقاهي القاهرة قضيناها مع نخبة من مفكرين وفنانين ومثقفين من مختلف الاتجاهات والأمزجة.

أتاح لنا غياب النفاق ان نتحاور حتى ما بعد منتصف الليل عن تشوسكي وهانتجتون الذي يعرفه عن كثب وكان قد حاوره مراراً حول أطروحته عن صراع الحضارات.

في عيد ميلاده الثمانين قدمت له باقة ورد ببطاقة كتبت عليها.. احتفالاً بالأربعين الثانية، ولو كان مزاجنا رائعاً لقلت له احتفالاً بالعشرين الرابعة تماماً كما قال أحد أصدقاء الشاعر جلفلكله في عيد ميلاده الثمانين.

صديقي الذي لا يشكو من الوحدة أو الدهشة لأنه يقرأ ويكتب ولديه ما يتذكره لم يسأم تكاليف الحياة في الثمانين وأغبطه ولا أحسده على ذاكرته المحصنة ضد الزهايمر الوبائي الذي بلغت عدواه أبناء العشرين والثلاثين.

فيما بطرس غالي شكراً لك في تسعينك على موقفك من قانا..

أما النّد الذي يصغرك بعشرة أعوام فقط فإن لديه ما سوف يدهشك اذا رواه لكن وعيه السايكولوجي يريحه من الشكوى.

أما الوزير اللبناني الذي نبت العشب على درج بيته والعتبة لفرط الهجران فهو يستحق ذلك، لأنه كان وزيراً فقط ولو كان في بيته عشرون كتاباً لتقدم بالشكر لمن هجروه


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور