هدأت الأوضاع في منطقة الهاشمي الشمالي على إثر زيارة وزير الداخلية ومدير الأمن العام إلى عشائر الدعجة ليلة أول من أمس، بعد ليلة صعبة على أهالي المنطقة، قام خلالها مئات من شباب العشائر بإغلاق طرق رئيسة بالإطارات المشتعلة، احتجاجاً على استشهاد الضابط عبدالله الدعجة، خلال تأدية واجبه الوطني في منطقة الموقّر.
الضابط الشهيد لقي حتفه في أحداث شغب في منطقة الموقّر، قام بها أفراد من عشيرة الخريشة، وأدت إلى اعتداء على مركز للأمن ومركبات أمنية، ومواجهات بين الأمن والمحتجين على عملية الكمالية التي قامت بها الأجهزة الأمنية قبل أيام ضد "خلية" مسلّحة.
هذا المشهد ليس استثناءً، إنما خطورته في الرقعة الاجتماعية والعشائرية الواسعة له. ففي الوقت نفسه، انتهت اشتباكات في إحدى قرى الشمال على خلفية عشائرية، خلفت العديد من الإصابات، واستخدمت فيها الأسلحة النارية، وهي أحداث باتت بمثابة خبرٍ يومي لنزيفنا الداخلي.
بالنتيجة؛ المشهد العام بات مختطفاً لأحداث العنف والشغب المتتالية على خلفيات عشائرية؛ سواء في المدن والقرى، أو في الجامعات أو حتى في ملاعب كرة القدم. وهي ظاهرة تستحق الوقوف عندها مطوّلاً، وقراءة ما ترسله من إشارات ودلالات خطرة، وفي صلب ذلك كله النتائج المباشرة للسياسات الرسمية خلال الحقبة الماضية التي أدّت إلى النفخ في الأوعية العشائرية بصورتها السلبية، على حساب الدولة والمواطنة والقانون.
لأنّ الثقة بالدولة تضعضعت كثيراً، واحترام سيادة القانون محل شك عميق لدى شريحة اجتماعية واسعة، ولأنّ شعوراً بأنّ المعادلة القائمة على استعراض العضلات هي المحدّد الأهم اليوم مع الدولة والمكونات الاجتماعية الأخرى، من أجل ذلك بدا المشهد العام وكأنّه في حالة فوضى عارمة، تعلوه أحداث شغب ومكاسرة، تارةً تدخل الدولة طرفاً فيها، وتارةً أخرى بين العشائر والتجمعات المختلفة!
في المقابل، لم يعد الملعب العشائري حكراً على الحكومة وأجهزتها، إذ تسعى المعارضة اليوم إلى توظيفه بما يخدم أجندتها وصدامها مع الدولة، وهو ما شهدناه بوضوح في المؤتمر الصحفي الذي أقامته شخصيات من عشيرة الخريشة، وتحدّث فيها معارضون حرّضوا الناس ضد الأجهزة الأمنية، بدلاً من أن يحاولوا تقصّي حقيقة العملية واحتواء دعوات التصعيد داخل العشيرة!
نحن نلعب بالنيران، وانتشار المواجهات المسلّحة وأحداث الشغب والعطوات الأمنية، هو تعبير صارخ عن "فلّة حكم" تقلق الجميع، وأسوأ تعبير عنها اليوم الإعلان عن مجالس سياسية للعشائر، وكأنّها أصبحت سلطة موازية أو بديلة للدولة. وهذا دفع –بالضرورة- أبناء المدن والأردنيين من أصل فلسطيني إلى القلق على أمنهم ومستقبلهم، وجذّر الشعور بالإقصاء السياسي والتمييز الإداري ضدهم، طالما أنّ المعيار العشائري أصبح أساسياً في المشهد السياسي.
انحدار السياسات الرسمية بعد عقود من بناء الدولة ومؤسساتها إلى تعزيز الخطاب العشائري في الجامعات والتجمعات والحياة النيابية والسياسية، وما تخلله من سياسات الاسترضاء للنواب والوجهاء في التعيينات والقبول الجامعي والمطالب الخدماتية الأخرى، وفي قانون الانتخاب، بذريعة التعبئة الاجتماعية تحت راية الولاء والانتماء، هذه السياسات أنتجت لدينا "استقواءً" على الدولة ومؤسساتها من جهة، ومنطقة رمادية في صوغ العلاقة بين الدولة والمجتمع تأخذ طابعاً وجاهياً واجتماعياً وعشائرياً!
وقف النزف الداخلي والسلم الأهلي، واستعادة الدولة، تتطلب الخروج من حالة الفوضى الحالية البائسة والمقلقة لنا جميعاً، والطريق إلى ذلك تمر عبر تشريعات وسياسات مختلفة تماماً عما تتبناه الدولة اليوم؛ فالأصل أن تكون مظلة الدولة والقانون فوق العشيرة والانتماءات الاجتماعية، وليس العكس، بدلاً من ذلك فإن المسار الراهن يأخذنا باتجاه تكريس هذا المشهد الرديء!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد