ما نشاهده في مصر، اليوم، من حالة استقطاب وانقسام واضحة بين الإسلاميين وأنصارهم من جهة والقوى العلمانية وأنصارها من جهة أخرى يتجاوز الاختلاف على الدستور والإعلان الدستوري إلى الموضوع الجدلي الأول في اللحظة الراهنة من حقبة الربيع الديمقراطي العربي، وهو سؤال العلاقة بين الدين والدولة، وما يتفرّع عنه من تساؤلات وإشكاليات ونقاشات وهواجس بقيت معلّقة بلا إجابات توافقية حاسمة خلال القرن الماضي.
سؤال علاقة الدين بالدولة ودوره في المجتمع والمجال العام؛ طُرح بقوة فيما سمي بعصر النهضة العربية، لكنّه توارى عن الأنظار في مرحلة الحرب الباردة إلى فترة قريبة، أي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتحوّل من قضية حضارية وفكرية وثقافية - تحتاج لنقاشات معمّقة بين النخب والعلماء والفقهاء والمفكرين للوصول إلى خلاصات نظرية وعملية- إلى خطاب أيديولوجي حادّ، مع صعود حركات الإسلام السياسي بألوانها المختلفة (الإخوانية، السلفية والجهادية) التي تتّهم النظم العربية بالتخلّي أو التعارض مع الإسلام.
بقيت قضية "الدين والدولة" محدودة في إطار "الشعارات الإسلامية"، فيما كان المنهج السائد في جميع الدول العربية (باستثناء السعودية بصورة أساسية) هي العلمانية، سواء كانت علمانية معادية للدين أو "محايدة"، لكن حتى الإسلاميين أنفسهم لم يكونوا مطالبين حينذاك بتقديم أجوبة عملية وواقعية لمضامين شعارهم الذي رفعوه "الإسلام هو الحل"، أو "الدولة الإسلامية"، طالما أنّ طموحهم بالوصول إلى السلطة كان بعيد المنال، حتى عبر اللعبة الديمقراطية المحجّمة أصلاً في إطار ما يفرضه الحكام.
المفارقة أنّ لحظة الربيع الديمقراطي العربي جاءت بعد أن تراجعت – عملياً- أغلب الحركات الإسلامية (في المدرسة الإخوانية) عن مشروع الدولة الإسلامية في سياقه الأيديولوجي، وأعلنت القبول باللعبة الديمقراطية وبتداول السلطة والتعددية السياسية بوصفها نظاماً نهائياً للحكم، وأكدت في مبادراتها خلال الأعوام الأخيرة احترامها لحقوق الإنسان والحريات العامة وحقوق المرأة وحرية الأقليات.
مع ذلك بقيت هنالك "مساحة رمادية" لدى الباحثين وخصوم الحركة وهواجس من أنّ هذا الإعلان براغماتي لاستثمار اللعبة الديمقراطية أكثر منه تحولاً أو تطوراً فكرياً داخلياً نتج عنه إيمان مطلق بالديمقراطية، وبإعادة هيكلة تصوّر هذه الحركات للعلاقة بين الدين والدولة ودور الدين في المجال العام، أسوة بما حدث مع حزب العدالة والتنمية التركي. إذاً، جاءت لحظة الربيع العربي، التي كشفت عن حجم الحضور الشعبي الكبير للإسلاميين وتصدّرهم المشهد السياسي في الانتخابات، لتثير مخاوف وهواجس نخب سياسية عربية، في كل من مصر وتونس وسورية والمغرب وأغلب الدول من بقاء "أجندة الدولة الإسلامية" قائمة، وعزّز من هذه المخاوف أنّ الحضور الإسلامي في المشهد لم يقتصر على الإخوان، بل برز السلفيون والجهاديون المسيّسون بوصفهم لاعباً أكثر صرامة وحدّة من "الإخوان" في التأكيد على ثيمة الهوية الإسلامية وعلى ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما أثار لدى الآخرين خشية من اختطاف المرحلة نحو نموذج قريب من التجربة الإيرانية "الديمقراطية الدينية"، وبالتالي خسارة النخب السياسية العربية للمكتسبات العلمانية التي تحقّقت خلال العقود الماضية، ويريدون الإبقاء عليها اليوم وغداً.
في مصر، تحديداً، أثار سلوك الإخوان وخطاب السلفيين هذه الهواجس بدرجة أكبر بكثير من الدول الأخرى، وهو ما دفع بالأطراف العلمانية الأخرى، يساريين وقوميين وليبراليين، إلى تكوين تحالف مقابل للقوى الإسلامية، وأصبح عنوان المرحلة المكاسرة لا التوافق، وهو بالضرورة ما لا يخدم المرحلة الانتقالية الدقيقة الحسّاسة، ويورِّط الشعوب في نقاشات فكرية وسياسية تتطلب توافقاً بين فقهاء وعلماء ومفكرين لا تنتهي ولا تحل بـ"مشاجرات" وشعارات الشوارع والمسيرات.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد