من ولد في قرية بعيدة عن البحر ومات فيها دون ان يرى سواها، من حقه أن يرى في غدير او بركة ماء المحيط الاطلسي وهذا ما يحدث بالفعل فالتفاوت بين البشر من حيث الخبرة والوعي هو مصدر سوء التفاهم بينهم، وفي عالمنا العربي ثمة من يبكون من أجل الوحدة العربية علانية لكنهم يلعنونها سرا، لأنهم مستفيدون من التجزئة، ولكيلا نكرر ما قيل مرارا عن البعدين السياسي لهذه المسألة، نقتصر على البعد الثقافي والفني فقط.

فحين تكون معايير الحكم على عمل ما أو فعالية ذات صلة بالمعرفة في النطاقين القومي والكوني تتضرر اعداد هائلة ممن تحولوا الى نجوم ساطعة في قراهم او حتى حاراتهم.

وفي دراسته القيمة والموثقة عن الدولة القطرية والدولة القومية قدم جورج طرابيشي احصاءات دقيقة عن هاجس المحلية. وتكريس الهويات الصغرى والفرعية، بحيث نظر البعض الى السلاحف والاسماك في بلدانهم كما لو انها تحمل الهويات ذاتها، واذا كان هناك من يفضل ان يكون فقيرا في بلد ثري على ان يكون ثريا في بلد فقير، فإنه بالمقابل هناك مثقفون يفضلون ان يكونوا مجرد قراء حصيفين في بلد مثقف على ان يكونوا مشاهير بين العميان، والمسألة كلها ترتهن لوعي الانسان بذاته وما يحيط به، لكن فلسفة المراذلة حلت مكان فقه المفاضلة فأصبح هناك من يطمح الى ان يكون اقل جهلا وليس اكثر معرفة، واقل قبحا وليس اكثر جمالا، لهذا ينشغل الناس في مراحل انحطاط كهذه بإفشال غيرهم، كي يستمدوا القيمة من هذا الافشال، فليس مهما ان تكون غنيا لأن الأهم ان يكون غيرك فقيرا، وليس المهم ان تكون متعلما بل الاهم هو ان يكون غيرك اميا.

وما يقوله علماء الاجتماع عن هذه الظاهرة يستحق التأمل، فالأمم تمر بربيع حضاري وليس بالمعنى السياسي المختزل كما تمر بخريف بالغ القسوة، وفي ربيع الحضارات يزدهر الطموح وتصبح المغامرة مناخا شاملا لكل انشطة الحياة بعكس خريفها الذي يدفع الى البطالة والاستنقاع والتنبلة.

فالخير كما يقال يجرّ خيرا وراءه والعكس صحيح، وهناك بشر يخافون من اختبار جدارتهم لهذا يعيشون حتى الموت داخل شرنقة قضم ذويهم فقط ومن يشاركونهم الوهم، فالأحمق له معجبون به أيضا كما تقول سيمون دوبرفوار وهم الأشد حمقا منه.

وما يستفزنا هو ان المستفيدين من التذرر القومي، وخرائط سايكس بيكو واحفادهم يعلنون غير ما يبطنون، فالوطن العربي لو كان دولة واحدة لكان لها سفير واحد في كل من بلدان العالم وليس اكثر من عشرين سفيرا، سيزداد عددهم اذا نجحت استراتيجية رايس وتوقعات بيريز الى سبعين بعد أن ينشق كل قطر عربي الى اربعة.

ان بإمكان اي شخص لم ير البحر في حياته ان يظن أن بركة الماء في قريته هي المحيط وان هضبة صغيرة فيها هي قمة افرست وان بيتا من طابقين هو برج ايفل لكن مشكلته ان ما يتصوره لا يشاركه فيه احد، وانه يموت مخدوعا.

واذا كان الجهل -كما يقول برتراند رسل- هو اهم ينبوع للحرية في تناول اي موضوع او قضية. لأن العلم قيد ويصاحبه خجل انساني فإن اهم مصادر سوء التفاهم الآن هو تفاوت الخبرة والوعي بحيث اوشكت القواسم المشتركة القديمة ان تنقرض لصالح خصخصة تخطت الاقتصاد الى الثقافة ومجمل مناحي الحياة


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور