أفقد التكرار كذبة نيسان صلاحيتها, وتلقح ضد تصديقها حتى هؤلاء الذين لا يفرقون بين الألف والعصا، لهذا كان لا بد من استبدالها بكذبة قومية كبرى، هي البيان الختامي لمؤتمرات القمة العربية، حيث تزدحم السفوح والقيعان بالجياع والمشردين والمذعورين، الذين تحوّل الغد بالنسبة اليهم الى ورقة يانصيب، فالثقافة السائدة الآن برمتها هي ثقافة اليانصيب ما دام الشعار المعلن هو ما يسقط من السماء تتلقاه الأرض، حتى لو كان هذا الساقط نيزكاً كالذي سقط على روسيا أو مجرة كالتي قد تسقط على هذا الكوكب فتحوله الى قبر يدور حول نفسه

كذبة آذار من طراز آخر، لا علاقة لها بالحب والزواج والوظائف والمكائد البريئة لمن يأكل الفراغ أيامهم، انها سياسة بامتيازين معاً، الأول ما يقال حتى الغثيان من عبارات مستعملة كرأب الصدع وذات البين والظروف الحاسمة التي تمر بها الأمة كما يمر البعير من ثقب إبرة.

والثاني رياضي من تخصص الحواسيب الذكية والفيزياء وهو أن أقصر الطرق يكون بين قمتين.

والعرب الذين نصبوا الفاعل ورفعوا المفعول لأجله واستبدلوا واو الجماعة بنون النسوة اخترعوا حاسوباً قومياً يحسدهم عليه العالم، يقول أن أطول الطرق وأوعرها يكون بين القمم، وأن الوصفات النموذجية لديمقراطية وعدالة، يوزع خلالهما وبهما الشقاء بالتساوي وكذلك الفقر وأمراض الضغط والسكر وبواسير الدماغ.

لو كانت تلك القمم لسلسلة جبال لتجاوزت افرست وهملايا ولو كان ما ينفق عليها يتحول الى طحين وطباشير ومضادات حيوية، لكان أكثرنا أصحاء.

لكن لغتنا الثرية بالمترادفات والمجاز لا تشترط صعود السفوح لبلوغ القمم، فطائر الرُّخ لا يحتاج الى ذلك، وتكفي بيضته لاطعام أكثر من مئة وخمسين مليون جائع من أصل ثلث مليار يقيمون على أثمن أرض في الكوكب، ولديهم موهبة مضادة لموهبة ميداس الاغريقي الذي كان يلامس التراب والرمل والقصدير فيحولها الى ذهب، اما ميداسنا فما ان يلامس الماس والذهب حتى يحولهما الى قصدير

انها الكيمياء القومية العجيبة التي تحوّل النعمة الى نقمة في أقل من خمس دقائق.

كذبنا على بعضنا في نيسان حتى حفظنا الدّرس، لكن أكاذيبنا البيضاء تلك لم يترتب عليها خراب أوطان وتشريد شعوب ومجاعات، لهذا لا بد من اختراع كذبة أخرى بالألوان، يترتب على من يصدقها في أوائل آذار من كل عام أن يصاب بشلل نصفي، تماماً كما أصيب آباؤنا بهذا الشلل في ارادتهم قبل أكثر من ستين عاماً عندما تهيأوا للعودة الى يافا فوجدوا أنفسهم في برج البراجنة واليرموك وعين الحلوة والبقعة وسائر السلالة.

سئمنا من الكذب الأبيض لأنه بلا مفعول، وينتهي عند غروب الشمس في الأول من نيسان، فشكراً لمن منحونا كذبة قومية بالألوان يدوم مفعولها عاماً كاملاً ثم تليها الجرعة الثانية.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور