هناك خسائر غير مرئية ويتعذر على اذكى الحواسيب احصاؤها، منها ما يتبدد من الوقت مجاناً وبلا أي طائل، ففي حصار العراق كان الزمن الضائع يحذف من قوائم الخسائر، خوصاً حين كان العراقيون يقطعون المسافات البرية بأضعاف مضاعفة من الساعات التي كانوا سيقضونها جواً، وحين تحصى الخسائر الفلسطينية يأتي ذكر مساحات الأرض وعدد اللاجئين والنازحين والأسرى، وما خلع من الشجر وما تم تجريفه من التراب. لكن ما لا يذكر على الاطلاق هو الزمن.. وما ضاع من أربعة أجيال في الترقب، أما الخسارة التاريخية الفادحة فهي الحياة خارج جاذبية الدولة وثقافتها ومدارها، بحيث أصبح الفلسطيني بحاجة الى التدريب كي يكون مواطناً، فلا وطن بلا مواطنين، وغياب ثقافة الدولة وأدبياتها من شأنه أن يضخم من حجم الفرد ويعزز أنانيته لأنه يتصرف كما لو أنه دويلة تسعى على قدمين، وغياب الدولة لا يتيح لأي منجزات أن تتراكم وثمة عودة دائمة الى الصفر أو أول السطر.
ما تمر به مصر منذ عامين يجد من يتحدثون على مدار الساعة عن أزمات الاقتصاد وتزايد البطالة وتناقص عدد السواح، وما نهب من المتاحف أو ما أحرق من المخطوطات والكتب، لكن ما من أحد يتحدث عن الوقت الضائع، وعن المديونيات الأخرى التي سوف تترتب عليه.
اننا نعيش في زمن أهم ما يميزه هو الايقاع المتسارع، بحيث لم يعد للسلحفاة حصة في هذا السباق المحموم، وحين يصاب الزمن بجلطات وتخثر فهو كالبشر تماماً، يمكث في كهفه، وتدور الأرض من حوله وهو ثابت يتفرج.
حتى بالنسبة للفلسطينيين فان أهم ما يخسرونه هو الوقت الذي يتحول بالضرورة الى مكاسب لاسرائيل فهي تحتاج الى المزيد منه كي تصيب عدة صقور وليس عصافير بحصاة واحدة.
فالجيل الأول الذي سمي جيل النكبة والذي يجسد الذاكرة على وشك الانقراض والأجيال الجديدة لها مساقط رؤوس أخرى وبالتالي ذاكرات مختلفة، والرهان الاستراتيجي للاحتلال هو على هذا بالضبط، بحيث يموت من يتذكر ويتغرب من ولد بعيداّ مهده.
لقد برهن العرب المعاصرون، بل المعصورون حتى آخر قطرة على أن الوقت من عجين وليس كالسيف، وأنه بلا قيمة، وكأن متوسط عمر العربي خمسة قرون أو أكثر، ولا أظن أن هناك لغة في العالم تنافس لغتنا على حروف التسويف، فكل شيء مؤجل تبعاً لفقه ثقافة عمياء تقول أن ما يسقط من السماء تتلقاه الأرض.
لهذا ينجب الفقير عشيرة فقراء دون أن يفكر للحظة واحدة بتربيتهم وتكاليف تعليمهم وعلاجهم.
لهذا لا بأس لديه أن يفقد خمسة منهم تماماً كما يحدث للفئران والأرانب والقطط الضالة.
لقد مضى زمن شراء الوقت لأنه الآن يعطى بلا مقابل بسبب فائضه الذي أنتجته البطالة بكل مجالاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
خسائرنا المنسية والساقطة سهواً من الحواسيب أضعاف خسائرنا المادية، لكن فهمنا للربح والخسارة توقف عند أدبيات البقالة والباعة المتجولين.
لهذا لا تستغربوا اذا شاهدتهم عجولاً تبرطع وتنطح بعضها وهي في طابور المسلخ
|
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور
|