عندما قرأت لأول مرة ذلك البيت الشعري الذي يرشح منه الشجن وهو:ذهب الذين احبهم

وبقيت مثل السيف فرداً

لم يكن قد ذهب ممن احب غير جدتي التي مكثت في سريرها الحجري تعد القهوة لجدي الذي وصل اليها حافيا وعاريا بعد عشرة اعوام. ثم توالى الفقدان الى ان اصبح بيت الشعر ذاك يصلح مسكنا لشريد الازمنة.

الشاعر الارشق من رمح ذهب، ولم يتسبب احدنا للاخر طيلة ثلاثين عاما بلحظة حزن او ندم واحدة، وذات مساء قاهري صاخب ورطب لم يقل لي بالهاتف سوى كلمة واحدة: مخنوق واغلق الهاتف، ولم اطلبه ثانية، لكنني صحوت على غير عادة في صباح اليوم التالي وعند المساء كنا نعد عشاءنا معا في عمان والمحامي الذي اقتسمت معه الاسم ذاته، والذي مات وهو يقطع الشارع امام الدستور، اين ذهب؟ وكيف يقضي ايامه الطويلة ولياليه الموحشة؟ كان ملاذي وكنت ملاذه.. وضحكنا حتى البكاء مثلما بكينا حد الضحك.

وحسام، اللامنتمي الذي كان سوء طالعه انه ولد شرق البحر المتوسط كان قادما للتو من حي سوهو في لندن بعد ان اصر على الاقتراب من كولون ويلسون الذي افسد حياتنا منذ الصبا باسئلته المدببة عن الوجود والكون والعدم. منذ اكثر من عشر سنوات لم امرّ من الشارع الذي كان يسكنه، لان غيابه لاذع وله ظل نحيل لا يغادر الجبل حتى بعد غروب الشمس.

اين ذهبوا؟ أأقول لهم ما قاله الشاعر حجازي عن صاحبه النقاش.. وهو:

لماذا رجعنا جميعا واوغلت انت؟

انها لحظة نادرة للبوح ولعتاب اصدقاء ذهبوا تاركين مقاعدهم لمن لا يستطيعون على الاطلاق ان يملؤوها، وتاركين فراغا شاسعا في الذاكرة وعمق القلب. اين ذهبوا؟ ألم يكونوا يدركون بأنهم اقل عددا من ان يذهبوا؟ وان الصديق المهجور سيبقى وحيدا كالسيف، لكنه ايضا بمضاء السيف، وببطالته عن ذبح اي كائن حتى لو كان دجاجة. ان اقسى واشق حنين عرفه البشر منذ كانوا الى الزوال هو الحنين الى اصدقاء ماتوا. فلا ارقام هواتف ولا رجاء باللقاء حتى لو كان في القطب المتجمد او المريخ.

ولولا ان رحيلهم يمنعني من عتابهم لقلت لهم ان هناك ارحم من هنا وارحب من هنا، فالاصدقاء يبدلون الان كالهواتف النقالة، ويستبدلون بعضهم كقطع غيار.

ان شعوري بغيابهم يدفعني احيانا الى ان اعد بضعة فناجين من القهوة لهم. واحضر حولي بضعة مقاعد. لان بعض الغياب الساطع ادفأ من اي حضورهلامي وبارد. صدق من قال ان الموت صياد ماهر، يخطف الاجمل والابهى تماما كما تنقر العصافير اكثر الثمار والعناقيد نضجا وعطرا وضعفا ازاء جاذبية الارض او بمعنى ادق امومتها.

صديقي الذي كنت اسمع رأيه في كل ما اكتب لم اسمع منه شيئا عما كتبت عنه، لانه المرسل اليه الذي ضل ساعي البريد الطريق اليه.

ذهبوا خفافا من كل شيء لهذا يأتون كالاطياف، واحيانا لا تتبدد الوحشة الا بمرورهم الخاطف كالبرق، ذهبوا.. وبقيت مثل السيف فردا


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور