قصة طريفة خلال جلسة في مناسبة اجتماعية، كان فيها عدد من ابناء احدى المحافظات ورجالاتها. الحكاية رواها احدهم عن احفاد من سكان عمان، سمعوا عن فاكهة تلك المحافظة، فطلبوا من جدهم، عند زيارته، ان يشتري لهم منها، معتقدين انها متوفرة او انها لأهل المحافظة. فأخذهم الجد الى احدى المزارع ليشتري لهم الفاكهة، لكن هناك رُفض طلبه، فانتقل من مزرعة الى اخرى، من دون أن ينجح في اطعام احفاده منها!
بعض الأردنيين ذاق الفاكهة المنسوبة الى مدينته في الخارج، وبعضهم شاهد الفاكهة تحمل اسم مدينته. لكن حكاية هذه الفاكهة ليست في ان يأكل منها ابناء المدينة، فربما لو توفرت ستكون اسعارها اعلى بكثير مما يستطيعون دفعه، لكنها مشكلة العلاقة غير العادلة بين استثمارات ومشاريع تسكن بعض المدن من دون ان تنعكس على اهلها بشيء!
فالمزارع الخاصة او الاستثمارية هي لشركات او اشخاص من الكبار، يمارسون تجارتهم والنزهة والاستجمام واستقبال الضيوف هناك، لكن لا علاقة لهم بالمدينة، ولا يقدمون لها شيئا، فعلاقة هذا الانتاج بالمنطقة انه حمل اسمها فقط! وربما يشعر أصحاب المزارع انهم اصحاب فضل على المحافظة، لأنهم وضعوا اسمها على "بكس" وصناديق الفاكهة! ولعل هذا يذكرنا بطريقة طبية لمعالجة العقم، وهي استئجار رحم لتأمين الحمل، وبعض مناطقنا رحم مستأجر، إذ لا ينعكس الاستثمار على البلدة فوائد تذكر!
مثال آخر اكثر ضررا على بعض المناطق تمثله حظائر ومزارع الاغنام التي تسكن في ارض القويرة. فهذه الحظائر كانت سببا في اصابة سكان المنطقة بأمراض، بحيث اوصت لجنة البيئة مؤخرا بنقلها من القويرة حفاظا على صحة الناس وحياتهم. ونظريا، فإن هذه الحظائر تعد استثمارات في القويرة، وقد يكون أحدهم كتبها في تقارير ادارية خاصة بتطوير المناطق البعيدة، لكن اهل القويرة لم يأخذوا من هذه الحظائر الا الروائح الكريهة والامراض والذباب، وربما عمل بعض ابناء المنطقة في هذه الحظائر عمالا ببضع عشرات من الدنانير!
اهالي القويرة تحملوا مخلفات المزارع والحظائر وامراضها وروائحها، اما اللحم فهو للبيع يأكله سكان المدن، والارباح تذهب إلى أهل المزارع والمصانع بلا اي مردود، فكأن الناس هناك ينقصهم، مع فقرهم، امراض وذباب، وروائح اغنام التجار!
المعيار ليس في اقامة مشاريع استثمارية او مزارع في المناطقة البعيدة، بل في عقلية اهل هذه المشاريع الذين عليهم ان يدركوا ان للمناطق التي يذهبون اليها ضريبة، قد لا تنطلق من قانون، لكنها ضريبة اخلاقية ووطنية، منبعها مفهوم الانتماء، والشعور بالارتباط بالمكان واهله.
فرق بين ان يفكر بعض الأشخاص بعقلية استعمال المكان، وبين اقامة علاقة مع هذا المكان. فعندما يتم وضع استثمار في منطقة، يفترض ان ينعكس ايجابا على هذه المنطقة، تماما مثلما ينعكس على صاحب الاستثمار، لأن الاستثمار يستمر عقودا طويلة، والامر ليس شبيها بكراج يضع فيه احدنا سيارته ساعة ثم يغادره، بل هو علاقة متكاملة. ولأن هذا لا يتوفر، فإن بعض مناطقنا المتخمة بالثروات والاستثمارات ما تزال تحتفظ بفقرها، بل ان بعضها بؤر للفقر، ولدينا، مثلا، مناطق الاغوار الجنوبية التي تضم البوتاس وملح الصافي وشركات اخرى.
لو توفرت العقلية المرتبطة بالمكان، لكان هناك تفكير تنموي يوفر مخصصات سنوية من كل الجهات، ويتم انفاقه تنمويا ورفع مستوى خدمات المنطقة. وهنا لا نتحدث عن تبرع لناد رياضي، بل عن مسار لخدمة المناطق؛ فشركة البوتاس قدمت خلال الفترة الماضية مليوني دينار دعما لبرنامج خدمات في مناطق الاغوار الجنوبية ضمن الهدف الذي رعاه جلالة الملك، لكن ما نبحث عنه هو ان يكون هذا الامر جزءا من منهجية التفكير وعقلية انتماء الاستثمار إلى الجغرافيا التي يقوم عليها.
يقال في الأمثال ان "عواس السم بذوقه"، اي حتى طباخو السم يذوقونه، ويفترض ان ابناء المناطق التي يجري الاستثمار عليها يلمسون اثارا ايجابية، وليس امراضا وروائح وذباب، او طبع اسم مدينتهم على منتج لا يرونه!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   سميح المعايطة