على الأغلب، لا يتجاوز ادّعاء الرئيس السوري أمام الوفد الأردني (الذي قام بزيارته مؤخراً) جانب السخرية والاستخفاف، عندما أبلغهم بأنّه سيترشّح للانتخابات الرئاسية المقبلة في سورية، حتى لو كانت مرحلة انتقالية؛ فإمّا أن يعود رئيساً للجمهورية، أو أن يجلس في عيادته في دمشق يمارس مهنته طبيب عيون!
المفارقة لا تبدو فقط في أنّ "طبيب العيون" لم ير بعينيه ما فعله بشعبه من ويلات ومآس، وأنه يتبجّح بكونه سيفتح عيادة ليعالج عيون الناس؛ بل الأغرب من ذلك ما نقل عن أحد أعضاء الوفد قوله: إنّه وجد الرئيس متصالحاً مع نفسه، وغير منفصل عن واقعه!
عضو الوفد الأردني وجد "طبيب العيون" متصّلاً بالواقع؛ فدعونا نلقي نظرة على هذا الواقع. فقط عدد من قُتلوا –رسمياً- يكاد يصل المائة ألف، وعدد من يسمّون المختفين قسرياً –أيضاً في الإحصاءات الدولية الموثقة- يصل إلى قرابة 70 ألفا، وعدد المعتقلين بمئات الآلاف، والمهجّرين داخلياً بمئات الآلاف، والمهجّرين خارجياً بمئات الآلاف!
طبيب العيون لم يرَ في سجون نظامه قرابة 5 آلاف طفل، وقرابة 9 آلاف امرأة؛ ولم يشاهد أبشع أنواع التعذيب التي مرّت على تاريخ البشرية والمجتمعات الإنسانية قاطبة، ما يجعل المرء يفضّل القتل والإعدام ألف مرّة على الحياة.
في مؤتمر أقامته، الأسبوع الماضي، مؤسسة "بيت الحرية" في عمّان بعنوان "التعذيب.. لا يمكن تبريره!"، تحدث الخبراء والمختصون العرب عن قصص التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، مما يندى له الجبين بالطبع. لكن عندما وصل الأمر إلى الضيوف السوريين، بدا كل ما تمّ الحديث عنه أقرب إلى "المزاح" والنكت مقارنة بما تمّ عرضه من أساليب تعذيب همجية بربرية لا تخطر على بال إبليس، وهي انتهاكات لا يمكن وصفها لحقوق الإنسان وكرامته وإنسانيته، بما في ذلك الذبح والنحر، وتقطيع الأوصال من آذان وأعضاء بشرية، وتعذيب بالكهرباء في المناطق الحسّاسة.. وغير ذلك من مشاهد وصور لا يمكن وصفها!
للأسف، دعونا نعترف أنّ إسرائيل، بكل سوئها وجرائمها وفظائعها، لم تصل إلى ما وصل إليه هذا النظام من مستوى متدنٍّ سيؤرّخ غداً عندما تتكشّف الأهوال أكثر وأكثر!
ربما مَن حول الرئيس لا ينقلون إليه ما يجري في هذه السجون من أهوال، وربما المسؤولون يمارسون ذلك من وراء ظهره! لكن، ألم يشاهد "الطبيب" حمص وحلب وإدلب وجسر الشغور وريف دمشق ماذا حلّ بها من القصف الجوي والمدفعي؟ ألم يلاحظ الطبيب أنّ قرى كاملة اختفت عن وجه الأرض ودمّرت بصورة كاملة؟ ألم يقرأ عن المئات الذين فرّوا من القصف إلى الكهوف والمواقع الأثرية حتى أصبحت تعجّ بالساكنين في ظروف بدائية تعود إلى "العصر الحجري"!
دعونا نتجاوز هذا كله، فمهما حدث سينتصر الشعب وينهزم الطاغية؛ هذه سنن التاريخ والكون والحياة. وستبقى هذه التضحيات بمثابة نيشان يفتخر به الشعب السوري الذي دفع ما يفوق طاقة البشر بأضعاف ثمناً لحريته. إنّما ما يقلقنا ويرعبنا هو الخوف على المستقبل مما يجري اليوم.
الخطير في الأمر هو أنّ النظام يوظّف بصورة مطلقة أبناء الطائفة العلوية حصرياً في الأعمال الشنيعة والبشعة، وهو ما يضع مداميك لحرب أهلية وطائفية مرعبة في حال انهيار النظام بصورة مفاجئة. فالناس ليسوا فوق مستوى البشر ليسامحوا ويعفوا مع قصص قتل الأطفال وذبحهم واغتصاب النساء، والتعذيب والإهانات والأعراض والدماء.. فما هو أخطر قادم إن لم يضع المجتمع الدولي حدّاً الآن وليس غداً لهذه المجازر، ويدفع باتجاه تسوية سياسية وفترة انتقالية، وتحديد خطوات عملية واضحة لتحقيق العدالة الانتقالية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد