لا تستبعد أوساطٌ رسمية الإطاحةَ بالحكومة برلمانياً، في حال مضى رئيس الوزراء نحو قرار رفع أسعار الكهرباء. لكنّ الهواجس الرسمية تقفز عن هذا المستوى إلى السيناريو الأكثر خطورة، والمتمثّل في ردود فعل الشارع التي لا تمسّ مصير الحكومة وحدها، بل تطاول الدولة؛ بشرعيتها ومؤسساتها المختلفة! ولمواجهة هذا "المنعطف" الكبير، تعمل الماكينات الحكومية لتقديم أفضل "وصفة" للالتزام ببرنامج إزالة الدعم، وقرار تغيير تعرفة الكهرباء.
تشير الترجيحات الأوليّة إلى أنّ "مطبخ الحكومة" استبعد سيناريو تقديم دعم مالي مباشر للطبقات الفقيرة مقابل رفع تعرفة الكهرباء. وفي المقابل، تم استبعاد هذه الشريحة الاجتماعية، ومعها نسبة كبيرة من الطبقة الوسطى (من لا يزيد استهلاكهم الشهري عن 300 كيلو واط) من قرار رفع أسعار الكهرباء، ما يعني 85 % من شريحة الاستهلاك المنزلي، إضافة إلى القطاعات الصناعية الصغيرة والمتوسطة والزراعية، واقتصار الرفع على الشريحة الاجتماعية الثرية، والقطاعات التجارية والخدماتية والسياحية عموماً.
بالرغم من كل ذلك، وفي حال تمكّنت الحكومة من عبور هذا المنعطف، مؤقتاً، فإنّ الحصيلة النهائية لمثل هذا القرار تتمثل في رفع مستوى الاحتقان الاجتماعي، نتيجة لما ستؤدي إليه النتائج غير المباشرة، وتحديداً في معدل التضخّم (ثمة شكوك في صحّة التوقعات الرسمية بارتفاعه بمقدار 1-1.5 %)، ومتوالية الارتفاعات المتوقعة والتي لا تتناسب مع دخل الشريحة الاجتماعية الواسعة!
مأزق البرنامج الاقتصادي (الحاكم) أنّه يواجه أزمة السيولة المالية عبر تخفيض التشوهات في الموازنة للحصول على القروض المطلوبة. لكنّه في الوقت نفسه يضاعف من حجم الأخطار الاجتماعية والسياسية المترتبة على "فجوة" العدالة الاجتماعية، والتي تأخذ -أردنياً- أبعاداً سياسية واجتماعية واسعة!
المعضلة هي أنّ "حجم" الأزمة الاقتصادية كبير، وأبعادها خطرة، وتستدعي علاجات استراتيجية متوازية مع ما تقوم به الحكومة من تقليص للعجز المالي في الموازنة عبر إزالة الدعم التدريجي. والمقصود هنا علاجات حقيقية جوهرية، لا خطابات شكلية مسطّحة في نتائجها ومضمونها.
الحزمة الموازية التي يتحدث عنها خبراء اقتصاديون، تتمثّل في إجراءات حقيقية لمواجهة التهرّب الضريبي الذي يبلغ، وفق بعض التقديرات، مليار دينار أردني؛ وقانون ضريبة دخل عادل؛ ومشروع متكامل واقعي لتنمية المحافظات (لا صندوق دعم محدود)، لجذب القطاع الخاص والاستثمار، عبر خلق بيئة جاذبة؛ ورفع الحدّ الأدنى للأجور، وإعادة النظر في بعض البنود المجحفة بحق العمال في قانون العمل؛ والبدء في تطبيق استراتيجية التشغيل، عبر إغلاق قطاعات معيّنة لصالح العمالة الوطنية، ورأب الصدع الكبير بين سوق العمل والتعليم الحكومي والجامعي.
يصف أحد كبار المسؤولين عبء دعم الكهرباء بـ"الثقب الأسود" الذي يبتلع ما يمكن إنجازه. وربما الوصف الأدق أنّ عدم ثقة المواطن بالدولة هو الثقب الحقيقي، وهو نتيجة تراكمية لما حدث خلال السنوات الماضية بأسرها. والتشوّهات التي تقع خارج الموازنة العامة هي الأخطر؛ تلك التي تصيب علاقة الدولة بالمجتمع، وانهيار سلطة القانون، وتراجع الحس بالمسؤولية الأخلاقية، وتنامي الهويات الفرعية، وتجذّر فجوة العدالة الاجتماعية ومشاعر الحرمان الاجتماعي!
المطلوب من الحكومة اليوم، وهي تتدارس قرار رفع أسعار الكهرباء واتفاقية صندوق النقد الدولي، أن تفكّر في مسار موازٍ يتجاوز ذلك إلى تدشين مشروع وطني واسع لتصحيح المسار؛ سياسياً واقتصادياً وثقافياً، لاستعادة رسالة الدولة وقيمها، فهذا هو جوهر هيبتها وقوتها، أكثر من أيّ حملات أو إجراءات أمنية منتظرة، بالرغم من أهمية هذه الأخيرة. وتلك هي "الضمانة" الحقيقية لعبور اللحظة المقبلة الحرجة!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد