لا نكتب هنا عن ضابط في الأمن العام فقط، لكنني أتحدث عن شاب أردني لم يتجاوز عمره (24) عاما يحمل على كتفه "نجمة" تمنحه لقب ملازم ثان، وإلى أن حمل النجمة كان هناك قصة كفاح من أمه وأبيه، فهو من عائلة مثل معظم عائلاتنا الفقيرة والمتوسطة التي تحلم بابنها طالبا في المدرسة والجامعة. ويبدو من عمر الشهيد عناد أنه خريج جامعة، وربما جامعة مؤتة بجناحها العسكري، بدأ حياته في عمله فهو مشروع عائلة أردنية مكافحة تعيش في الجنوب تنتظر ابنها ليعود لها في الإجازة.
نحن جميعا لا نعرفه، رحمه الله، لكن من المؤكد أنه نموذج كريم للشباب الأردني في شجاعته وشهامته، وكل ما فعله أنه كان مخلصا صادقا في عمله وأداء واجبه كأردني ورجل أمن طارد ثلاثة لصوص وأصحاب أسبقيّات، وكان ورفاقه قد تمكنوا من القبض على أحد اللصوص، لكنه تلقى بصدره رصاصات أودت بحياته.
الإخلاص والرجولة ليست عملة نادرة في مجتمعنا وشبابه العاملين في كل المجالات، لكن لهذه النماذج واجب في رقابنا، أقله الوفاء والتقدير والاحترام، والعزاء لأهله وعشيرته. فربما قرأ الكثيرون في الصحف خبر مقتل عناد ومطاردته للصوص، وربما اعتبروه خبرا عاديا، لكن الحكاية تمتد إلى حياة شاب وعائلته وأهله، وقبل هذا فهو قدوة ونموذج يستحق أن نقدمه لشبابنا في وقت نشكو فيه من ممارسات سلبية لفئات من شبابنا ولا مبالاة وانشغال بما لا يفيد.
وحين نُعلّم أبناءنا وبناتنا في المدارس والجامعات تربية وطنية، ونحاول بناء الانتماء والإخلاص، فمثل هذه النماذج من الشباب هم وقود هذه التربية. الانتماء ليس أغنية أو خطابا، بل شاب شهيد مثل عناد، وأردني متفوق في دراسته يرفع اسم الأردن عاليا، ومسؤول مخلص يحافظ للأردنيين على مال دولتهم وحرمة القانون والدستور، وآخر لا يتناقص منسوب إخلاصه لوطنه حسب وجوده أو مغادرته لمكتب الحكومة وسيارتها، فكل هذا منظومة متكاملة تجسد الإخلاص والانتماء والمواطنة السليمة.
أحيانا يمارس الكثيرون منا إخراج أقلامنا وألسنتنا من أغمادها لنمدح مسؤولا أو صاحب جاه، لكن من يستحق التقدير هم الجنود المجهولون من أصحاب الانتماء الفطري الذين يمثل الأردن بالنسبة لهم قيمة سامية ووطنا بل خيار وحيد استراتيجي، وليسوا ممن يتعاملون مع أوطانهم على أساس الربح والخسارة، أو أنه مشروع وظيفة أو موقع أو شيكات علاقات ومصالح. لهذا فالكتابة عن الأوفياء سواء أكانوا كبارا في مواقعهم أو من عامة الأردنيين جزء من بناء ثقافة إيجابية.
عناد النعيمات واحد من الأردنيين الذين يستحقون الإكرام والتكريم، لسبب أساسي أنه امتلك في داخله ما دفعه لأن يفعل كل ما يستطيع لحماية الناس وأموالهم، وهذا المضمون الداخلي هو الذي نبحث عنه ونجده في مواطن بسيط يتألم كثيرا إذا رأى إضاءة الشوارع موجودة في ساعات النهار ويراها هدرا لمال الدولة، أو آخر في مكتب في وزارة أو دائرة يحرص من قلبه على أن يعطي لكل مواطن حقه دون مماطلة أو تأجيل أو تعقيد.
وكما نطالب كل أردني بأن يحمل في داخله انتماء صادقا فطريا، فمن حق كل نموذج إيجابي أن يجد التكريم والاحترام من كل الأردنيين وفي مقدمتهم الدولة، وأن يشعر هؤلاء الكرام أو عائلاتهم أن الصدق يقابل بالاعتراف بالخير. فكما يقال فلا يعرف الفضل لأهله إلا أولو الفضل، والتكريم لهؤلاء بكل أشكاله تعزيز لأخلاق المواطنة الحقيقية، وكما تعطي الدولة حفاوة وتكريما وامتيازات، لمن لم يقدموا شيئا مذكورا، فعلى الأقل أن يكون الرجال والنساء الصادقون من الأردنيين على رأس قائمة الإكرام والتقدير.
لا أعرف الشهيد عناد ولا عائلته الكريمة، لكنني والكثيرين نعرف حسن فعله ورجولته، فقد قدم روحه حتى تشعر بناتنا وأبناؤنا، ونشعر جميعا بالأمن ونحن نسير في شوارعنا ونجلس في بيوتنا، ونعرف أنه نموذج أردني صادق يستحق - من الجميع- أن نذكره بكل خير، وأن نوفيه بعض حقه، ونذكر معه كل إخوانه الشهداء، ليس فقط من الجهاز العسكري والأمني، بل كل موظف وعامل يمارس أخلاق الشهداء وسلوك الرجال وهو يرعى مصالح الناس في عمله ووظيفته سواء أكان في أدنى درجة وظيفية أو في أعلى مراتبها.
رحم الله عناد النعيمات، وكل التقدير لتلك الأسرة التي رعته وكان حلمها، وإذا كان الموت قدرا مكتوبا في الساعة والمكان فإننا كبشر أعطانا الله تعالى أن نختار أخلاقنا وسلوكنا، لهذا اختار عناد أن يموت رجلا وأن يقدم للأردنيين نموذجا كريماً.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   سميح المعايطة