ملايين المصريين الذين خرجوا الجمعة الماضية، في مسيرات مندّدة بالانقلاب العسكري، تحت عنوان "الشعب يسترد ثورته"، سبّبوا "صدمة" كبيرة للإعلام المصري والنخبة السياسية والمثقفين الذين استخدموا أحدث أدوات المعرفة والتقنيات لتمرير رواية الجيش!
لا نتحدث هنا عن تحدّي الناس للقمع الشديد والقتل والبلطجة في مشهد مذهل، بل عن فشل عشرات القنوات الفضائية المصرية، والعربية معها، في التأثير على مواقف شريحة واسعة من الرأي العام المصري، بالرغم من استخدام أهم النظريات الإعلامية المعاصرة في صناعة الرأي العام وتعليبه. فمن الواضح أنّ الإعلام البديل-المجتمعي نجح في كسر هذا "الاحتكار"، ووصل بصورته ودعايته وروايته إلى ملايين المصريين، وهو ما شاهدنا نتائجه في الجمعة الماضية.
المفارقة أنّ الإعلام المصري الرسمي والخاص، ومعه أغلب الإعلام العربي، مع تجاهل الإعلام الغربي، قد عمل على التلاعب بالصورة الإعلامية في كثير من المحافظات، وحجبها في محافظات أخرى، واستعان بكتيبة من الكتّاب والمحللين، مع ألمع المذيعين الذين خلعوا ثوب المهنية؛ لكن مع ذلك كانت "صورة يوتيوب"، وقصص المواقع الاجتماعية، أقوى تأثيراً، وخارج نطاق التحكّم والسيطرة، وأقوى من أعتى القنوات الفضائية الموجودة.
يمكن ملاحظة ذلك في فشل هذه القنوات والصحف والمقالات في تحويل دعاية إعلامية وسياسية افتراضية إلى واقع، وتسيير الجمهور وفقاً له. إذ عمدت هذه القنوات، غداة الانقلاب مباشرة، إلى وصف جماعة الإخوان المسلمين بالإرهاب والعنف والتطرف، وبدأت بالمطالبة بحلّ "الجماعة" وإقصاء حزبها السياسي؛ الحرية والعدالة، حتى قبل أن تبدأ الفعاليات الاحتجاجية الشعبية للإخوان في رابعة العدوية والنهضة. هذا فضلاً عن الأحداث التي تلت عملية فض هذه الاعتصامات بالقوة العسكرية والأمنية!
استباق الأجندة الإعلامية للخطوات الواقعية التي تتم على الأرض، فضح الاستراتيجية التي تعتمدها الدولة عمليا في مواجهة "الجماعة"؛ عبر الزج بها في دائرة الحرب على الإرهاب، وتسويق ذلك محلياً وعالمياً، وتصوير الجيش المصري على أنّه يخوض حرباً مع الإرهابيين والمتطرفين، ويدافع عن الأمن القومي.
وفي الوقت الذي كانت "الجماعة" تصرّ فيه على أنّها ضد العنف والإرهاب، وأنّ الاحتجاجات على عملية عزل الرئيس محمد مرسي هي ذات طابع سلمي وعلني، فإنّ الإعلام المصري والعربي كان يروّج لدعاية مدروسة عن اكتشاف أسلحة تعود لأعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، أو تقدّم قصصا (سواء كانت صحيحة أو خاطئة؛ ليس هذا موضوعنا الآن) حدثت بصورة فردية هنا أو هناك بوصفها تعبيراً عن السلوك الإرهابي للجماعة وقادتها!
مع ذلك، فإنّ الغرب، ونسبة كبيرة من الرأي العام المصري والعربي، لم يشتريا رواية "أخونة الإرهاب"، لا داخلياً ولا خارجياً؛ فالمظاهرات والمسيرات مستمرة ومتواصلة، ما يعني نجاحاً فائقاً غير مسبوق للإعلام المجتمعي على الإعلام التقليدي.
ثمّة نتائج ومعطيات كثيرة تتشكّل اليوم في العالم العربي على وقع المتغيرات الجذرية التي نمرّ بها. أحد هذه المعطيات هو ما نراه من الثورتين السورية والمصرية، ويتمثّل في إنهاء حقبة الإعلام التقليدي، وبروز حقبة الإعلام المجتمعي الذي لا يبقي أي نوع من السلطة أو الهيمنة للحكومة وأدواتها، وحتى لرأس المال، على حرية المعلومات والآراء وبث الصور. وهذا التحول له انعكاساته الكبيرة على مفهوم السلطة ودور المجتمع والنظريات الإعلامية والنفسية السائدة، سواء "التلاعب بالعقول" أو "الحروب الافتراضية"، أو حتى "السيطرة على الإعلام"، أو أي نظريات بنيت على دور الإعلام في تغيير الوقائع على الأرض.
لا الإعلام الحكومي، ولا الخاص المسيّر وشبه المسيّر، ولا حتى الإعلام الالكتروني الموجّه، بقادر على التحكم؛ فالجمهور خارج السيطرة يا سادة!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد