عندما نستمع احيانا الى بعض انواع النقد والهمز واللمز، والعبارات التي توحي بأن كل شيء رديء وأن الامور باتجاه الهاوية، لا تشعر بأي قيمة لمثل هذا، بل تشعر في داخلك ان ما تسمعه خال من الموضوعية، وحتى أدنى قواعد الارتباط بالوطن والمصلحة العامة.
وما اتحدث عنه ليس النقد او المعارضة التي من حق اي مواطن او إعلام او حزب او جهة ان تمارسه داخل اطار التعددية، فهذا حق دستوري مشروع، بل وضروري لتقويم المسيرة؛ كما لا اتحدث عن انواع المعارضة او المشاغبة المؤقتة التي تظهر مع خروج بعض الأشخاص من مواقعهم الرسمية، لكنها تختفي اذا ما عادوا. فأحيانا تستمع من شخص الى تقريع وتقويم سلبي لحكومة ما، لكن اذا ما شاءت الاقدار ان يدخل هذا الشخص الحكومة عبر تعديل، رأيته مدافعا شرسا عنها! وهذه ليست قصصا افتراضية، وإنما احداث نعيشها.
ما نشير إليه هو ذلك النوع من النقد اللاذع، والتذمر والشكوى من كل شيء، والتقويم السلبي لكل ما هو قائم من اشخاص كانوا لسنوات طويلة ممن يأمرون فيطاعون، يبتسمون لأمر فيتحول الى واقع تكتب فيه القصائد، أما اذا أظهروا الغضب او نصفه من امر، اصبح من نواقض المصلحة العامة، ورمزا من رموز الشر! كانوا العقل الذي يفكر ويخطط ويشرفون على التنفيذ، وعندما تدور عجلة الايام في بلادهم، تصبح لغتهم قائمة على التذمر والشكوى والهمز واللمز.
هذه النماذج في العالم لها جانب إيجابي. فأقدار الله تعالى تريد ان تقدم لبعض اصحاب المواقع المهمة جدا فرصة ليتذوقوا جانبا من معاناة الناس، وليعيش احدهم تحت وطأة السلطة عندما تمارس تضييقا او تهميشا او استبعادا من دوائر التأثير. وربما يكون الامر نوعا من اعطاء الفرص لمن كانوا يوما في الدائرة الاولى لصنع القرار واتخاذه، ليروا من خارج سدة النفوذ كيف يكون حال المواطن وهو يتلقى القرارات الخاطئة، او يكتوي بنار السياسات غير المنتجة، او يدفع ثمن ضجيج ليس داخله ثمرة. وهي مناسبة لكي يصلهم احساس الناس، وكيف تمارس الشكوى، مع فارق كبير بين شكوى من التهميش السياسي، وبين شكوى من قلة الخبز، او ضيق من شبح رسوم المدارس ومصاريف الكتب والدفاتر او رسوم الجامعات، او حتى تأمين الكاز لصوبة قديمة.
هنالك الآن ما يمكن تسميته "الشكوى البرجوازية" التي تتحول الى سوداوية تقوّم كل الامور من منظور شخصي او من "زعل" داخلي. ونوعية مضمون مثل هذا التذمر تختلف حسب طموح الشخص، فيبدأ الامر من رئيس قسم يريد التحول الى مدير، ويقوّم كل الدائرة بأنها خراب، الى طامح بأن يكون امينا عاما او وزيرا او رئيس وزراء. لكن اقسى انواع الشكوى والتذمر، وأقلها تأثيرا في نفس المستمع، هو الصادر عن شخص حصل على فرصة أن يكون صاحب الامر والنهي، وزمن يكفي لإثبات القدرات وتسجيل الإنجاز. فهذا النوع من الشكوى والتذمر لا علاقة للناس به، لأن بقاء مثل هؤلاء او ذهابهم من مواقعهم ليس خيار الناس، والأهم ان البقاء لهؤلاء لا يعني الرفاه والتقدم والحلول للمشكلات، او التفوق في ادارة الملفات الكبرى.
مرة اخرى لا نتحدث عن النقد أو المعارضة الموضوعية التي هي حق دستوري ومحل احترام، لكن الجهة الاهم في ممارسة النقد او المطالبة هم الاردنيون الذين لا يريدون اكثر من حكومات قادرة قوية، وسياسات صحيحة، وحفاظ على المال العام، وعدالة وإنصاف للمظلوم، وسعي جاد إلى حل مشكلاتهم الحقيقية. وهؤلاء الاردنيون موضوعيون مع وطنهم، يعلمون إمكاناته ويقدرون ظروفه ومقدراته المحدودة؛ صدق المسؤول وقربه منهم يرضيهم، فيما يغضبهم التهويل والاستشراق والقنابل الدخانية والاكسسوارات التي تخفي ضعف الانجاز.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد سميح المعايطة