لم أكن على موعد مسبق مع الاستماع لنقاشٍ سياسي ساخن بين ثلاثة أشخاص، جمعتني بهم "الصدفة" في قاعة الانتظار بكراج للسيارات، كلُّ منهم يمثّل مصالح شريحة اجتماعية معينة وهواجسها.
الشخص الأول من أبناء العشائر الأردنية، ويقيم في الخليج؛ ميسور الحال اقتصادياً، لكنه محمّل بكمّ كبير من الاحتقان الداخلي والغضب من الوضع السياسي الراهن. مدخله في الحديث هي الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعانيها الناس في الأردن، والمواطنون من "أبناء البلد"، بسبب رفع أسعار السلع المختلفة، وارتفاع الضرائب والرسوم، كما أسعار الوقود.
المشكلة عند صاحبنا الأول، مقصورة على أبناء العشائر الذين خسروا نتيجة الأوضاع الاقتصادية أراضيهم ومصادر ثروتهم؛ وهم أشبه بالغرباء في "السيستم"، ويعانون الأمرّين اقتصادياً. بينما المفسدون من المسؤولين وأصحاب المصالح الاقتصادية، يرتعون في الثروات والأموال والحياة المترفة!
أما الشخص الثاني، وهو من أبناء أسرة أردنية أرستقراطية مقرّبة تقليدياً من "السيستم"، وأعماله الاقتصادية هو الآخر خارج البلاد، فله رأي مناقض تماماً للأول. إذ يعترف ابتداءً بأنّ هناك أخطاء ومشكلات واختلالات في السياسات الداخلية، ونسبة معينة من الفساد المالي، لكنه يرى ذلك طبيعياً في أي نظام سياسي في العالم، بما في ذلك الدول المتقدمة والصناعية المتطورة؛ والتي فيها فساد أيضاً، وكذلك مشردون وفقراء، وطبقات تكافح من أجل أن تحظى بحياة كريمة في ظل الضغوط الاقتصادية.
يرى صاحبنا، الثاني، أنّه مهما كان حجم هذه الأخطاء والاختلالات، فهي لا تقارن بما تشهده الدول التي عاشت ما يسمّى "الربيع العربي". ففي ليبيا، تخضع الدولة لمنطق العصابات المسلحة وأمراء الحروب، وتناشد الحكومة اليوم المجتمع الغربي إنقاذ ليبيا. وفي سورية اليوم دمار شامل، ومخاطر كارثية. والأمور ليست أحسن حالاً في مصر واليمن. وهو يصل بعد هذا الاستطراد بشأن ما تمر به الدول المذكورة إلى نتيجة حاسمة؛ بأنّ النظم السابقة على "علاّتها" كانت أفضل حالاً من الأوضاع الراهنة!
الإسقاط المتوقع لهذه الظروف الإقليمية على الواقع المحلي، نجده مشابهاً تماماً لما نسمعه من رئيس الوزراء والمسؤولين؛ بأنّنا نحمد الله أنّ الربيع الدموي العربي "لم يمر من هنا"، وأنّنا نصحو صباحاً ونغدو مساءً ونحن آمنون على عائلاتنا وأطفالنا؛ فمهما كان حجم الفقر والضغط الاقتصادي، فهو لا يعدل ساعة واحدة تحت مطرقة الفوضى وسندان الدم المراق في الشوارع العربية!
الشخص الثالث هو من الطبقة الوسطى في عمان. خسر وظيفته، كما يقول مؤخراً، وقد كان مديراً للمبيعات في معرض قطع سيارات، لصالح العمالة السورية الشقيقة الوافدة. كان في بداية النقاش منتشياً بالنقد اللاذع الذي يوجّهه الشخص الأول للأوضاع العامة في البلاد، وتشجّع لدخول النقاش، قبل أن يتفاجأ بحديث الأول عن الظلم الذي يعانيه "أبناء العشائر"، وبلادهم التي تضيع من بين أيديهم، وربطه ذلك بـ"الوطن البديل"!
حاول الشخص الثالث أن يدير دفّة الحديث بالاتجاه الآخر، عندما قال "دعنا من الأصول والمنابت، ليست هذه القضية. فأنا طردت من عملي، بينما الحكومة لا تتدخل ولا تحمي المواطنين". لكنّه بعدما شعر أنّ موضوع "المظلومية الاقتصادية" لأبناء العشائر هو الذي يحتل حديث الشخص الأول، قرّر مثلي أن يكتفي بالاستماع إلى النقاش!
لا يعكس هذا النقاش، بالضرورة، رأي الأغلبية العظمى من الشرائح الاجتماعية. لكنه يدل بوضوح أنّنا فشلنا، معارضةً ودولة، بعد هذه العقود والسنوات والخطابات، في بناء نموذج "الجماعة الوطنية" التي تعرف أولوياتها، وتحدد التحديات والمخاطر. فهنالك تعريفات متضاربة للإصلاح السياسي وللمواطنة، كما لتعريف الأزمة الاقتصادية، ولتحديد الأولويات والتحديات والتهديدات!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد