ما يميّز الشريط المصوّر- الفضيحة لمفتي جمهورية مصر السابق، علي جمعة، هو مستوى السفور الذي وصل إليه في "شرعنة" القتل والاعتقال واستخدام القوة المسلّحة، بما فاق حتى "فقهاء النظام السوري"، من أمثال البوطي وأحمد حسون.
خلال الثورة المصرية، استخدم نظام مبارك النخبة الإعلامية والمؤسسة الدينية الرسمية، ومعهما دعاة دينيون، ونخبة من المثقفين والكتّاب، لإدانة الاحتجاجات السلمية، وتجريمها وتحريمها. ثم كانت المفارقة بعد نجاح الثورة مباشرةً، بأن انقلبت هذه الشخصيات نفسها على كل ما كانت تقوله سابقاً؛ فلبست ثوب الثورة والثورية، وأصبحت تتحدث عن"العهد البائد"، وكأنّها كانت من ألدّ خصومه ومناوئيه! ثم بعد الانقلاب العسكري، عادت هذه النخب لممارسة اللعبة نفسها، من دون أن يرفّ لها جفن!
للأسف، انضم إلى أولئك مجموعة من المثقفين والإعلاميين، ممن كانوا يقفون ضد الرئيس مبارك، وأسهموا في هدم الصروح الثقافية والإعلامية للاستبداد، من خلال مقالاتهم وأعمالهم الجريئة، مثل الأديب علاء الأسواني، وبعض الإعلاميين والمثقفين؛ إلاّ أنّ صدامهم مع الإسلاميين دفعهم إلى تأييد الانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي ومنحه "الغطاء الثوري"، كما حدث مع المخرج خالد يوسف، الذي لعب دوراً كبيراً مؤخراً في الدفاع عن الانقلاب وتسويغه، ثم الدفاع عن عبدالفتاح السيسي عقب تسرب الشريط الذي يطلب فيه الجنرال من الإعلاميين تدشين حملة لتحصينه دستورياً!
بالضرورة، أسهمت ممارسات الإخوان خلال المرحلة الانتقالية الأولى في هذا التحول لدى المثقفين، وتحديداً ذوي الاتجاهات اليسارية والليبرالية، ممن كانوا يؤيّدون سابقاً "الجماعة" في مواجهة مبارك، ويدافعون عن ضرورة إدماجها، ثم لما جاء الإخوان إلى الحكم، تصادموا معاً!
هل السبب أنّ هذه النخب وجدت الطريق مغلقة أمامها مع حكم الإخوان المسلمين والسلفيين الذين استحوذوا على "كعكة" الثورة، بالإضافة إلى هواجس هذه النخب من حكم الإسلاميين، سواء كانت هواجس مضخّمة أم حقيقية، من أن يؤدي إلى تقييد الحريات ويتضارب مع ما تؤمن به من قيم وتتبنّاه من مواقف ثقافية وأخلاقية تتناقض مع رؤية الإسلاميين؟ كل ذلك ممكن على صعيد تفسير التحول والموقف العدائي الشرس تجاه الإخوان المسلمين!
لكن ما لا يمكن تبريره لمن وقفوا ضد استبداد نظام مبارك، مثل خالد يوسف والأسواني وعمرو الشوبكي وغيرهم، هو أن يسهموا اليوم في ترميم النظام القديم وإعادة تصنيع "الصنمية السياسية" التي تتمثّل في محاولات تنصيب السيسي بوصفه "زعيماً تاريخياً" عبر الادعاء بـ"نصر وهمي" على"إرهاب مفترض" في الاعتصامات السلمية في الميادين. وما لا يمكن أن يغفر لهم أخلاقياً وثقافياً هو تبرير هذا الإيغال في سفك الدماء لكل من يخالف الانقلاب وزبانيته، والمضي في تأثيث البيت من جديد لاستقبال دكتاتور آخر!
ثمة مثقفون عارضوا الإخوان، بصلابة وشراسة وحزم، خلال فترة الرئيس محمد مرسي، وانتقدوا الأخطاء التي وقعت فيها "الجماعة". لكنّهم عندما قرأوا مسار الانقلاب العسكري، وما سيفضي إليه من إعادة تدشين الدكتاتورية والاستبداد، وما يقف خلفه من أجندة إقليمية وأخرى داخلية مرتبطة بالنظام السابق؛ حافظوا على مبادئهم ومواقفهم وقيمهم، فلم ينخرطوا في مسلسل التزوير الذي حدث!
ومن هؤلاء من برّر التدخل العسكري في البداية، لكنه عاد لاحقاً إلى رفض الخطوات التي تلت ذلك، ولم يقبل أن يبرر سفك الدماء وقتل الأبرباء، والمشاركة في الحملة الهستيرية الإعلامية والسياسية للقضاء على كل المخالفين وشيطنتهم. أما النخبة التي ما تزال تبرّر وتزيّن ما يحدث بوصفه استمراراً للمسار الديمقراطي، فلا يمكن تفسير موقفها بأي حال من الأحوال في سياق الدفاع عن الديمقراطية، بل هو تحول باتجاه الانخراط في نظام سلطوي مقبل، والدخول في ماكينة التبرير والتسويغ للاستبداد؛ فتنضم للنخبة القديمة، بل وتنافسها في هذه "المهمة الجليلة"!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد