بقلم المستشارة التربوية - هديل سليمان
أخيراً استطعت ان أكلمك- اليوم سأقرر ان افتح فمي - يكفيني انتظار 16 عاماً مضت لم اعد استطيع .... هكذا بدأت (م) مكالمتها الهاتفية في إحدى ساعات المساء المبكرة، استغربت من هذه البداية وقلت لها السلام عليكم من معي،
 
فقالت - انا طائر هام في كل فضاء ، وجال في كل حقل ، ولم يبق باب لم يطرقه ، ولم يبقَ الم لم يشعره ، ولم تبق رجل لم تركله، فاستغربت من حديث (م) وقلت لها وعَمّن تبحث ايها الطائر الجوال ، فقالت ابحث عن مكان يؤويني فقد ضاقت الدنيا بي، ابحث عن حضن دافىء بعدما بات العالم كله بارداً، ابحث عن شيء احلي به ريقي الذي جف وأصبح مراً بفعل الايام ومآسيها.

 

بعد محادثة تليفونية استمرت ساعات وبعد لقاء مع (م) اشعرني بمدى حاجتها الى ملجأ تأوي اليه فهمت ان مقدمة (م) ليست اقل ألما ولا اقل غرابة من واقعها.
(م) طالبة في الصف العاشر، هادئة جداً في عينيها حزن عميق، تراها دائماً منفردة، وحيدة لا تختلط مع بنات صفها ولا تمازحهن ولا تتحدث اليهن، تبقى لوحدها والحزن صديقها الوحيد، كنت أراها كذلك دائماً ولكني لم اعرف ما هو سبب حزنها إلا عندما حدثتني تلك الهادئة الصامتة التي كان صمتها غريباً، صمت لا ينتهي يحاول كل من حولها ان يتحدث معها، ولكنها تأبى، عندما حدثتني استغربت حتى انني لم اعرف صوتها لأني لم اسمعها تتحدث من قبل في أية مناسبة.

 

في الهاتف قالت لي باختصار لقد ضاقت بي الحياة لم اعد اطيق بيتنا، اصبح سجناً يحاصرني، باتت ابوابه قيوداً تقيدني، قلت لها لماذا ؟
فقالت ابي يمنعني ان اذهب لأي مكان، حتى عند صديقاتي وجاراتي ، وأصلاً لا صديقات لي لأنني لم استطع خلال حياتي الطويلة ان ابني صداقات بسبب ان اهلي منعوني دائماً من الذهـــــاب اليهن .
عندما التقيت بـ (م) وجهاً لوجه، بدأت مرتبكة وتشعر بالخجل رغم انني اعرفها منذ فترة، ولكن الجديد هو حديثها معي .. حاولت ان ابدأ معها المحادثة بعدة طرق إلا انها كانت تصمت في كل مرة .. ثم بعد عدة دقائق بدأنا نسترسل في الحديث وبدأنا بالحديث عن البيت والاسرة وشعورها بالضيق بينهم حتى قالت : ... كيف لا يكون البيت سجنا وهو من يدخله يمنع ان يخرج منه ، وكيف لا يكون سجنا وكل ما استطيع القيام به بداخله هو اعمال منزلية روتينية كل يوم.

 

قلت لها منذ متى وانت تشعرين بان البيت سجن يقيدك فأجابت بعد تنهيدة طويلة اخرجت مع زفراتها الماً كبيراً منذ ان وعيت انني انسانة او أصلاً لا أذكر انني يوماً شعرت هذا الشعور ، فمنذ طفولتي وانا اهتم باخوتي الصغار وامي كانت تخرج باكراً في الصباح احيانا قبل خروجنا الى المدرسة فأيام كثيرة كنت اضطر للتغيب عن المدرسة بسبب تأخرها في العودة ولم اعلم يوماً اين تذهب في مثل هذه الساعات المبكرة هذا وكنت احيانا اصل الى المدرسة الحصة الثانية او الثالثة او انني اتغيب طوال اليوم ، والمعلمة تستقبلني بالصراخ وانا التزم الصمت لأن فمي لا يستطيع ان ينطق بأي شيء .
استمررت انتقل من صف لآخر ومع صراخ المعلمين والمعلمات يرافقني بسبب اهمالي في دروسي وعدم قيامي بواجباتي وعدم استيعابي للمواد المطروحة في الصف ، وكيف افهم شيئاً لم ادرك اوله لأفهم آخره ، وكيف اعوض ما خسرته في ساعات الصباح وانا عندما يلوح طيفي في الحارة تبدأ الاوامر تنهال عليّ ، فأدخل البيت الذي من اراد فهم معنى كلمة فوضى بعمق عليه ان يدخله ، فتبدأ امي تلقي عليّ المهام الواحدة تلو الاخرى ، احيانا كان يأتيني شعور بأني لست ابنتها فبحثت عن هذه المسألة كثيرا واستجوبت جدتي وجاراتنا حتى تيقنت انني ابنتها .
كنت انتظر ساعات المساء من اجل ان انام وانا منهكة القوى فارتمي على الفراش لارتاح قليلا وانسى همومي .
في المرحلة الاعدادية نقلوني الى صف التربية الخاصة، وكيف لا وانا اصلا لم اتعلم شيئاً الا القليل .. اضافة الى صمتي ، فكثيرا من الاحيان كنت اشعر انني اريد ان اتحدث ولكن صمتي يغلبني .
كل من حولي شعر بالشفقة نحوي ولكن احدا لم يحرك ساكنا ليساعدني للخروج من ازمتي ... فيبقى صراخ امي والاعمال المنزلية ، والشعور بالقهر والذل ومحاولاتي اليائسة لأن انجح في دروسي .
بداخلي حزن عميق حتى انه عندما يقوم احدا برواية نكتة في الصف استصعب الضحك .
بدأت اشعر ان الكل لا يريدني ويشعر وكأنني مخلوق غريب احاول ان اتقرب من طالبات صفي ولكن دائماً هناك شيء يشدني الى الخلف فانسحب.

 

احياناً اشعر انهم يسخرون مني ولذا ابتعد عنهم هم لا يقدِّرون الحزن الذي بداخلي من كل هذه الاحزان وجدت شيئاً واحداً يفرحني وهو الافلام الكوميدية اشعر انها تدخل السرور الى قلبي فأحببت مشاهدتها ، فكرت كثيرا انه ربما الموت اهون من هذه الحياة ، ولكني كنت اتراجع في اللحظات الاخيرة .
الآن انا طالبة منبوذة في المدرسة ، حزينة ومهانة بالبيت اشعر اني اسرق البسمة لترتسم على شفتي من بين آلاف آلاف الاحزان ، ولكن .....
الى متى سأبقى محرومة أضحك للافلام فقط ...
ماذا عليّ ان افعل لارتاح قليلاً من اضطهاد اهلي ، انا أحاول جادة في المدرسة ان اجتهد ، ولكن يبدو انه فات الاوان ووضعي التعليمي من الصعب اصلاحه ، ولا ادري اصلا اذا كان ابي سيسمح لي السنة القادمة باكمال دراستي .
 
 
هذه هي مشكلة (م) ولنجمل الاسباب التي ادت الى ما وصلت اليه
نعود لنكرر مرة اخرى دور الام ، فقسوة الام على ابنتها جعلتها تصل الى هذه الحالة النفسية الصعبة .
قدرات الفتاة المحدودة بسبب الوضع الاجتماعي الذي هي فيه وهذه القدرات لم يتم استيعابها واعطاؤها المجال للتقدم حسب وتيرتها ووفق ما تستطيع تعلمه .
المدرسة خلال الـ 15 عاما من حياتها المدرسية لم تهتم لمشاكلها ولم يهتم احد الى انّ صمت الفتاة غريب وغير طبيعي.
صمت الفتاة فقد كان عليها ان تتحدث قبل هذا بكثير ، وصمتها الطويل لم يساعدها وكان عليها ان تحاول جادة لكسره .
فهل من حل اذن ؟
حل مشكلة ( م) هذه المرة لا تتعلق بها وحدها انما حل المشكلة يتوجب التوجه الى الام فعلى (م) ان تنسق لقاء بين الاخصائية بالمدرسة او المستشارة مع امها للحديث معها حول تداعيات تصرفاتها مع ابنتها ، وأن تستمر بالعلاقة مع هذه المستشارة لمساعدتها على تقوية علاقتها بأسرتها
الحديث مع طاقم المدرسة من اجل دعمها وتشجيعها على محاولة الدراسة قدر الامكان .
والآن لنتوجه الى (م) فلنا معها وقفة
أولاً : اياك والتفكير بهذا الاتجاه السلبي ستحاسبين امام الله فاقلِعي عن هذه الفكرة التي تغضب الله تعالى وعليك بالصبر والدعاء فلعل الله يفرج كربك .
ثانيا : ننصح (م) الالتحاق بمجموعة في دار القرآن الكريم او بمجموعة من صانعات الحياة وان تعمق علاقتها بالاخوات في الدعوة ، الامر الذي سيساعد فعلاً لخروجها من أزمتها .
ثالثاً: استمري في محاولاتك من أجل تحسين وضعك الدراسي وربما تستطيعين ان تحصلي على بعض النجاح .
رابعاً: استمري في كسر صمتك ، لانه فقط بكسر صمتك تستطيعين انهاء الحالة التي انتِ بها .

المراجع

الموسوعة الالكترونية العربية

التصانيف

مجتمع   العلوم الاجتماعية