من الطبيعي أن نرى اليوم ستاد عمان الدولي ممتلئاً عن آخره بالجمهور الغفير، الذي سيحتشد لدعم "النشامى" في مواجهة عالمية مشهودة مع منتخب الأورغواي العريق، المتخم بالنجوم الكبار المشهورين. ومن الطبيعي، كذلك، أن تكون شوارع الأردن خالية؛ إذ سيحبس الجميع أنفاسهم أمام شاشات التلفاز، وهم يتابعون المباراة، ويراقبون أداء منتخبهم!
الأردنيون ليسوا استثناءً عن باقي المجتمعات والشعوب، وكرة القدم أصبحت لعبة شعبية عالمية بامتياز، ترتبط بالمشاعر الوطنية، وبالتنافس بين الشعوب والدول والمجتمعات؛ فهي لم تعد مقتصرة على المستطيل الأخضر ومدرجاته، بل تجاوزت ذلك إلى السياسة والثقافة والرمزية الوطنية، لدى غالبية الشعوب.
إنّما خصوصية هذه المباراة، أردنياً، تتمثل في أنّها تعكس مدى التعطش الشعبي والجوع لأي شيء وطني جامع يلمّ الناس، ويوحّد مشاعرهم جميعاً، تحت راية واحدة وغايات سامية ومصالح مشتركة. وربما ما حقّقه منتخب النشامى بوصوله إلى هذا الملحق، هو بحد ذاته إنجاز مهم، يُسجّل لهؤلاء الأبطال الذين قاتلوا حتى وصلوا إلى هذه المرحلة، فأفرحوا الشعب ووحّدوه، وأججوا مشاعر الفخر والاعتزاز بالوطن.
المفارقة المدهشة تتمثّل في أنّ الأردنيين يدركون تماماً أنّ "النشامى" أمام مهمّة إن لم تكن مستحيلة، فهي في غاية الصعوبة؛ في مواجهة فريق عالمي بحجم الأورغواي. لكنّهم مع ذلك يقفون خلف المنتخب، ويحيّونه، ولا يطلبون من اللاعبين والجهاز الفني إلاّ أن يقدّموا أداءً جميلاً، وروحاً قتالية وطنية. أمّا تجاوز هذه المرحلة إلى البرازيل، إن حدث، فهو ما يتجاوز سقف توقعات الجميع!
هذه المشاعر التي نراها في الشوارع والبيوت والمحافظات، هي رسالة سياسية مهمة، فحواها أنّ إيمان الناس بالهوية الوطنية الجامعة أكبر من الظواهر المرضية التي بدأت تنتشر في الآونة الأخيرة؛ من صعود الهويات الفرعية والجهوية، وخطابات الكراهية المتعصبة، والتي امتدت آثارها إلى العنف الجامعي والمجتمعي، والتطاول على القانون، وتهشيم قيمة المواطنة.
الهوية الوطنية الجامعة متجذرة في قلوب الجميع، وهي الأكثر قوة وتأثيراً من جميع الهويات الفرعية والعصبيات، التي لم تظهر إلاّ نتيجة الاختلالات التي حدثت؛ سواء بسبب الشعور بغياب العدالة الاجتماعية، أو تحت مطرقة الظروف الاقتصادية، أو ضعف المشروع السياسي، أو الشعور بفقدان العدالة، أو الاختلافات الأيديولوجية والسياسية والحزبية حول سورية ومصر والربيع العربي، أو الحديث عن الفساد والبطالة والفقر، أو أزمات المياه والكهرباء.. وسواها.
توارت الهوية الوطنية الجامعة، خلال الأعوام الماضية، عن الأنظار، وتراجع حضورها في المشهد العام، لغياب المنجزات الوطنية الكبرى، ولافتقادنا لمشروعات كبيرة تجمع الكل؛ سواء كانت اقتصادية أم تنموية أم سياسية، بل وحتى ثقافية. فما كان يشاهده الناس هو إخفاق تلو الآخر، ونخب سياسية صغيرة ضعيفة متصارعة، ورجال دولة عاجزون عن تقديم نماذج قيادية ناجحة تحظى بإعجاب واحترام الشارع، وتقود مشروعات وطنية كبرى!
"النشامى" يخوضون اليوم مباراة "ملء الفراغ الوطني"؛ فهم يذكروننا بأنّ هذا الوطن الجميل يستحق مشروعات ناجحة وكبيرة، تصنع ما صنعه المنتخب. وهو يحتاج نخبة وطنية كبيرة في تطلعاتها ورؤيتها وآفاقها، تخلق قصص نجاح حقيقية؛ في الاقتصاد والتعليم والثقافة والسياسة. وما نخشاه هو أن تذبل هذه الروح الوطنية التوّاقة للإنجازات والفخر، بعد ساعات، وتكون مجرد غمامة صيف عابرة، أو فزعة خاطفة، أو فرحة خاطفة!
ما نحتاجه، وربما ما نفتقده، هو التفكير على المدى الطويل، والتخطيط البارد الهادئ المدروس لصناعة الإنجاز والنجاح وتعزيز الروح الإيجابية الوطنية الجامعة، في أيّ مجالٍ كان؛ سواء في الكرة، أو التنمية، أو الفن، أو الثقافة، أو المبادرات السياسية أو التعليم..!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد