يُحسب للدكتور معروف البخيت، رئيس الوزراء الأسبق، مبادرته إلى تقديم تصورات معمّقة بشأن المتغيرات الاستراتيجية الدولية والإقليمية، كما تقديم رؤية أردنية لتأثير هذه التحولات على الأمن الوطني، بما تثيره من تحديات ومصادر تهديد وفرص استراتيجية. وهو ما قام به في محاضرته القيّمة أمس، التي عقدها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وشهدت حضوراً نوعياً من السياسيين والباحثين.
لن أتحدث عن مضامين المحاضرة، فهي بين يدي قرّاء "الغد" (ورقياً وإلكترونياً) حالياً. لكنّ ما أود التطرّق إليه على ضفاف هذه المحاضرة، هي رؤوس أقلام رئيسة.
الأمر الأول؛ أنّنا كما أشار مدير مركز الدراسات الاستراتيجية 
د. موسى شتيوي، في تقديمه للمحاضر، نفتقد بالفعل لهذا النمط من المحاضرات واللقاءات التي تجمع بين الجانب البحثي والعلمي من جهة، والخبرة السياسية الواقعية من جهة أخرى.
ربما يختلف البعض أو يتفق مع ما يطرحه البخيت، وهذا أمر طبيعي. وهنالك كثيرون لديهم موقف سلبي من فترة توليه الحكومة، وأنا شخصياً انتقدت حكوماته السابقة. لكنّ ذلك لا ينفي أنّنا أمام محلل استراتيجي، ومثقف يدرك خطورة الاعتماد على الإدارة اليومية للملفات الاستراتيجية، ويدفع إلى ضرورة أن تكون هناك تصورات استراتيجية مبنية على حوارات داخلية معمّقة بشأن تعريف المصالح الوطنية ومصادر التهديد والتحدي، بصورة دورية.
ما نزال، للأسف، في المشهد السياسي والإعلامي، عالةً على ما تقدمه مراكز التفكير والمصادر الغربية عن منطقتنا، بالرغم من أنّ كثيراً من مصادرها قائم على مقابلات الباحثين والكتّاب وقادة الرأي الأردنيين والعرب. وفي الوقت نفسه، لدينا الإمكانية لتقديم مثل هذه الدراسات المعمّقة، وتجسير الفجوة الواضحة بين مراكز البحث والتفكير والحكومات. فلماذا نصرّ على هذه الفجوة المخجلة في عصر المعلومات والمعرفة والتكنولوجيا، وعلى أن نسير بلا أي دليل إرشادي حقيقي نحو المستقبل، في طريق مسكونة بالمتفجرات والأخطار والألغام؟!
ربما تكون محاضرة الدكتور البخيت فرصة للتذكير بهذه الحلقة المفقودة، أو "الفريضة الغائبة"، في صناعة السياسات الوطنية؛ بتأسيس مراكز تفكير، أو منح الموجود منها أدواراً حيوية في دعم عملية صنع القرار السياسي، داخلياً وخارجياً.
الأمر الثاني، وهو الأهم، الذي يتواصل مع مضمون محاضرة البخيت، فيتمثّل في أنّنا في المنطقة العربية أمام لحظة تاريخية خطرة وصعبة ومعقدة. فما يحدث في سورية بمثابة مقدمة لتغييرات جوهرية وجذرية، ستطاول المنطقة بأسرها. فهنالك تراجع أميركي ملحوظ، وصفقة مع إيران، وانهيار في منظومات الأمن القومي العربي وفكرة المصالح المشتركة، وسيناريوهات حقيقية لتقسيمات محتملة وكبيرة جديدة للمنطقة العربية، قائمة على خطوط الدم والنار الطائفية والعرقية والدينية، ابتداءً من سورية مروراً بالعراق، فلبنان، واليمن والسودان، وربما يكون غيرها من الدول على الطريق. في المقابل، ثمة صعود وانتشار للأفكار والحركات الدينية الراديكالية، تجد قبولاً لدى جيل الشباب المغضب والمحبط.. إلخ.
ثالثاً،  وبناءً على ما سبق؛ فإذا تجاوزنا المربعات الصغيرة ونظرنا إلى القوى الإقليمية وأجنداتها وحالة المنطقة اليوم، فسنجد أننا أمام مشروع إيراني قومي توسعي، وآخر إسرائيلي، وثالث تركي، وكتل سنّية، بالمعنى الاجتماعي الديمغرافي السياسي، في كل من سورية والعراق ولبنان، تفتقد إلى المعنى والحماية والمجال الاستراتيجي، بينما القوى السنية الرئيسة العربية في حالة من التخبط والغيبوبة. وإلى حين قيام رؤية عربية عقلانية واقعية، تمكّننا من الجلوس إلى الطاولة، فإنّنا سنبقى على الطاولة كموضوع، لا كفاعل! فيما تتكفل "القاعدة" بملء الفراغ وتقديم مشروعها السني، الذي نختلف معه بالضرورة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد